الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 04 نوفمبر 2020 - 18 ربيع الأول 1442هـ

قصة أصحاب الكهف (2) (موعظة الأسبوع)

محنة الفتية مع قومهم

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- الإشارة إلى فضل القصة باختصار، والتذكير بمنهج تناول القصة على نحو ما تقدم في الموعظة الأولى، من تقسيم القصة إلى أربعة مشاهد، نتناول كل مشهد في موعظة مستقلة، ونقف من خلاله وقفات متنوعة.

- المشهد الأول من القصة (محنة الفتية مع قومهم): قال -تعالى-: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا . نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى . وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا . هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) (الكهف:12-15).

- مجمل ما جاء في محنتهم مع قومهم: ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف: "أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يومًا في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السماوات والأرض. فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية -أي: يخرج إلى البراز، وهي الأرض الواسعة-، فكان أول مَن جلس منهم وحده أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر، وجاء الآخر، وجاء الآخر، ولا يعرف واحدٌ منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان، فجعل كل واحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه، خوفًا منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون -والله يا قوم- إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم، إلا شيء؛ فليظهر كلُّ واحد منكم ما بأمره. فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه، فعرفتُ أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء؛ السماوات والأرض وما بينهما. وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك. وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يدًا واحدة وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدًا يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله -عز وجل-؛ ولهذا أخبر -تعالى- عنهم بقوله (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا) و(لَنْ) لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبدًا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلًا؛ ولهذا قال عنهم: (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) أي: باطلًا وكذبًا وبهتانًا.

(هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) أي: هلَّا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلًا واضحًا صحيحًا؟! (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيُقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم، وتهددهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجَّلهم لينظروا في أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه. وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة".

- هذا الجزء من القصة سيكون لنا معه ثلاث وقفات: (وقفة دعوية - ووقفة عقدية - ووقفة إيمانية).

الوقفة الدعوية: أهمية دور الشباب في نصرة الدين:

- الشباب أكثر قبولًا للحق، وأسرع استجابة من الشيوخ: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فَقَدِمَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وجُرِّحُوا؛ قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في دُخُولِهِمْ في الإسْلَامِ" (رواه البخاري).

- الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار كانوا شبابًا: (أعمارهم في أول الإسلام - نبذة عن قصة إسلام عمرو بن الجموح ودور الشباب في ذلك)(1).

- عمر الشباب مِن أخطر مراحل عمر الإنسان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

- أعظم ما تغتنم به فترة الشباب التزام الدِّين والعمل به والدعوة إليه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ ... ) وذكر منهم: (وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه... ) (متفق عليه).

الوقفة العقدية: الإيمان يزيد وينقص:

- لقد زاد الله الفتية بعد إيمانهم إيمانًا وتوفيقًا، وهكذا أثر زيادة الإيمان في القلوب: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى . وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ).

- زيادة الإيمان ونقصانه أصل في عقيدة أهل السُّنة: قال -تعالى-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32). (يحسُن بالخطيب أن يذكر مثالًا على أصناف المؤمنين الثلاثة، وتفاوت الإيمان بالشجرة بأحوالها الثلاثة: أصل شجرة - شجرة كاملة - شجرة كاملة ذات ثمر).

- أهل البدع من الخوارج والمرجئة جعلوا الإيمان كلٌّ لا يتجزأ ولا يتبعض؛ إما أن يَبقى كله وإما أن يزول كله؛ فالمرجئة يكفي عندهم مجرد الكلمة (لا إله إلا الله) ولا يضر معها ذنب، فإيمان أفجر رجل في الأمة عندهم كإيمان جبريل! فهدموا قضية الثواب والعقاب، وأخرجوا العمل من الإيمان، فلا فائدة في التنافس في الخيرات، فالكل عندهم مؤمنون مستوون في الإيمان، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ) (متفق عليه).

- والخوارج وأضرابهم غلوا في اشتراط العمل لصحة الإيمان، فكفَّروا أهل الذنوب والكبائر: والله -تعالى- يقول: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات:9)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ) قال أبو ذر: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟! قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟! قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِى ذَرٍّ) (متفق عليه).

- تنبيه مهم جدًّا:

قد يظن البعض أن تناول هذه المسألة من الترف العلمي، ولكن المتابع للأحداث لا سيما بعد الثورات العربية يرى أثر الجهل بهذه المسألة في كثير من المتدينين والعوام، فقد تبنى كثيرٌ من المتدينين فكر التكفير، فتولدت التيارات الصدامية الدموية ضد المسلمين، وتبنى كثيرٌ من العوام فكر المرجئة في مقابلة الأولين، مما استثمره العلمانيون والمنافقون للهجوم على الدين من الجهتين؛ فشوهوا صورة الدين من جهة الصداميين بأنه يقتل ويفجِّر ويحرق، وحصروا الدين في بعض الممارسات الصوفية على أحسن الأحوال من جهة العوام! وإنا لله وإنا اليه راجعون.

الوقفة الإيمانية: التضحية والبذل لأجل الدِّين:

- لقد ضرب الفتية مثلًا رائعًا في البذل والتضحية لأجل الدِّين؛ فقد تركوا حياة القصور والأبدان المتنعمة، إيثارًا لحياة القلوب والأرواح، ولو كانت الأبدان متألمة: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف:10).

- أصحاب العقيدة تهون عليهم القصور والدثور، إذا حالت بينهم وبين عقيدتهم وقضيتهم: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (يوسف:33)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما أدخلوه السجن وأغلقوا عليه الأبواب: "(فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (الحديد:13). وكان يقول: "ما يفعل أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري. إن قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة".

- أصحاب العقيدة ينظرون إلى تضحياتهم بالدنيا في سبيل الله، نظر مَن سقط مِن جيبه "قرش صاغ" وهو منطلق نحو هدفه؛ فهل يلتفت إليه؟! قال الإمام أحمد -رضي الله عنه-: "إنما هو طعامٌ دون طعام، ولباسٌ دون لباس، وصبرُ أيامٍ معدودة".

- إشارة مختصرة إلى تضحية الصحابيين الجليلين: مصعب بن عمير، وذي البجادين، بالحياة المتنعمة في سبيل الله، (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى).

فاللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كان لفتيان بني سلمة بقيادة معاذ بن جبل، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، أثرًا عظيمًا في إسلام عمرو بن الجموح، وبعض سادات بني سلمة، قصة إسلام عمرو بن الجموح، وكيف مكر له الشباب لفضح عبادة الأصنام وإبطالها؛ مما كان سببًا عظيمًا في إسلامه.