الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 30 أكتوبر 2020 - 13 ربيع الأول 1442هـ

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (50) آيات من القرآن في ذم القسوة (28)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:16-17).

قد بيَّنا -في المقال السابق- أن حياة القلب أصلها حياته بالعلم؛ لأن الجهل موت لأصحابه، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والعلم بالأخبار التي أخبر بها في كتابه، وأخبر بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن ملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والعلم بأوامره ونواهيه، وما يحبه وما يكرهه، وحلاله وحرامه، والعلم بأحوال القلوب المؤمنة وأمراض القلوب المريضة.

وكل هذه العلوم تكشف للقلب حقائق الوجود؛ فيراها أمام عينيه ويجعله الله من الموقنين، كما قال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75)، فاليقين بهذه الحقائق الجلية ينقل القلب إلى حياة أخرى ضرورية له مثل ضرورة العلم، وهي حياة الإرادة والقصد والطلب، بأن يجعل غايته الله وحده، قال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة:5)، قال -تعالى-: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) (النجم:42)، وهي التي تتضمن حياة الحب الحقيقة لله رب العالمين وإله المرسلين، وكمال الذل والانقياد والخضوع له؛ فلا تحصل للقلب حياة بدون حياة الإرادة والمحبة، وكما أن مَن فقد حياة القلب بالعلم كان مِن الضالين؛ فكذلك مَن فقد حياة القلب بالإرادة والقصد كان من المغضوب عليهم، وكما ضلَّ الأول؛ فقد غوى الثاني.

 والصراط المستقيم صراط الأنبياء وخاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي لا ضلال فيه ولا غي، قال الله -تعالى-: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (النجم:1-2)، وقال -تعالى- عن إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر:39-40).

فمَن فقد العلم مات قلبه بالجهل فصار يقبل تزيين الشيطان -وهذا النوع الأول مِن عمل الشيطان-، وصار الباطل مُزينًا له في صورة الحق، وشُوِّه الحق في نظره فرآه باطلًا، وصار الإيمان في نظره كفرًا مِن تنفير الشيطان منه، وصار الكفر في نظره إيمانًا مِن تزيين الشيطان له، وصار الحرام حلالًا، والحلال حرامًا، والسُّنة بدعة والبدعة سنة، وكل هذا مِن موت القلب بالجهل أو مرضه، وانقلاب موازين العبد، نعوذ بالله من ذلك.

والنوع الثاني من عمل الشيطان:

هو إماتة قلوب أوليائه بالزيغ بموت إرادة القلب؛ فلا يحب الله ولا يطلب مرضاته، ولا يبتغي وجه ربه الأعلى، وإنما يطلب الشهوات الأرضية أو الشهوات الإبليسية؛ فالشهوت الأرضية المحرمة؛ كطلب الطعام المحرم: كأكل الميتة والخنزير، والشراب المحرم: كشرب الخمر والمخدرات، وكل مالٍ أتى مِن حرام ليأكل به الإنسان، أو كطلب المال الحرام، أو كالشهوة الجنسية المحرمة: كالزنا واللواط، ونحو ذلك.

 وأما الشهوات الإبليسية فكلها حرام؛ كإرادة العلو والفساد، والرياء والسمعة، والقسوة والغفلة، والذلة، والجبن والبخل، والكفر والفقر، والنفاق والفسوق، والشقاق، وسيئ الأخلاق، قال الله -عز وجل-: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83)، وإنما يقسو القلب فلا يشعر بهاتين الحياتين؛ حياة العلم، وحياة الإرادة والقصد.

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "حياة الإرادة والهمة هي أحد مراتب حياة القلب، وضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة؛ كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى.

فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وإرادته، فضعف الطلب، وفتور الهمة؛ إما مِن نقصان الشعور والإحسان، وإما مِن وجود الآفة المُضعفة للحياة، فقوة الشعور، وقوة الإرادة دليل قوة الحياة، وضعفهما دليل على ضعفها، كما أن علو الهمة، وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة؛ فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها، فإن الحياة الطيبة إنما تُنال بالهمة العالية، والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلبًا، وحياة البهائم خير من حياته.

كما قيل:

نهارُك يا مغرور سهوٌ وغـفـلةٌ                      وليـلُـك نـومٌ والـرَّدى لـك لازمُ

وتكدح فيما سوف تُـنـكر غِــبَّـه                     كذلك في الدنيا تعيش الـبهـائمُ

تـُسـَرُّ بما يفنى وتفرح بالـمـنى                      كما غُرَّ باللذات في النوم حالمُ

والمقصود: أن حياة القلب بالعلم والإرادة والهمة، والناس إذا شاهدوا ذلك من الرجل، قالوا: هو حي القلب.

وحياة القلب بدوام الذكر، وترك الذنوب، كما قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-:

رأيتُ الذنوبَ تمـيت الـقـلـوب            وقـد يــورث الـذلَّ إدمـانُهـا

وتركُ الذنوب حـيـاةُ الـقـلوب             وخـيـرٌ لـنـفـسـك عصـيانُها

وهل أفسد الـديـنَ إلا الـملوك            وأحـبارُ سـوءٍ ورهـبـانُـهـا

وباعوا النـفـوس ولم يربحوا            ولم يـغـلُ في البيع أثـمانُها

فـقـد رتـع الـقـومُ فـي جـيـفـة           يَبـيـن لـذي الـلبِّ خسرانُها

وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: مَن واظب على: "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت" كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر أربعين مرة؛ أحيا الله بها قلبه (قلتُ: هذا الأمر وإن قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ونقله ابن القيم عنه -رحمهما الله-، فإن تحديد موعد وعدد لذكر معين -دون دليل من الشرع- لا شك أنه يدخل في حيز البدعة)، وكما أن الله -سبحانه- جعل حياة البدن بالطعام والشراب؛ فحياة القلب بدوام الذكر، والإنابة إلى الله، وترك الذنوب والغفلة الجاثمة على القلب، والتعلق بالرذائل والشهوات المنقطعة عن قريبٍ؛ يضعف هذه الحياة، ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت، وعلامة موته: أنه لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، كما قال عبد الله بن مسعود: أتدرون مَن ميت القلب الذي قيل فيه؟

ليس مَن مات فاستراح بميت            إنـما الـميــت مـيــت الأحـيـاء

قالوا: ومَن هو؟ قال: الذي لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا!

والرجل هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه؛ إذ أكثر هؤلاء الخلق يَخافون موت أبدانهم، ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية؛ وذلك من موت القلب والروح.

فإن هذه الحياة الطبيعية شبيهة بالظل الزائل، والنبات السريع الجفاف، والمنام الذي يُخيَّل كأنه حقيقة؛ فإذا استيقظ عرف أنه كان خيالًا، كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لو أن الحياة الدنيا مِن أولها إلى آخرها أوتيها رجلٌ واحدٌ، ثم جاءه الموت؛ لكان بمنزلة مَن رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ، فإذا ليس في يده شيء.  

وقد قيل: إن الموت موتان؛ موت إرادي، وموت طبيعي، فمَن أمات نفسه موتًا إراديًّا كان موته الطبيعي حياة له. ومعنى هذا: أن الموت الإرادي هو قمع الشهوات المُرْدية، وإخماد نيرانها المحرقة، وتسكين هوائجها المتلفة؛ فحينئذٍ يتفرغ القلب والروح للتفكر فيما فيه كمال العبد، ومعرفته، والاشتغال به.

ويرى حينئذٍ أن إيثار الظل الزائل عن قريب على العيش اللذيذ الدائم أخسر الخسران، فأما إذا كانت الشهوات وافدة، واللذات مُؤثَرَة، والعوائد غالبة، والطبيعة حاكمة؛ فالقلب حينئذٍ إما أن يكون أسيرًا ذليلًا، أو مهزومًا مخرجًا عن وطنه ومستقره الذي لا قرار له إلا فيه أو قتيلًا ميتًا، وما لِجُرْحٍ بمَيتٍ إيلامُ.

 وأحسن أحواله أن يكون في حرب؛ يُدال له فيها مرة، ويدال عليه مرة؛ فإذا مات العبد موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والأحوال الفاضلة التي حصلت له بإماتة نفسه، فتكون حياته هاهنا على حسب موته الإرادي في هذه الدار.

(قلتُ: وأما موت النفس الإرادي فهو عبارة عن موت شهواتها المحرمة؛ لا موت رغباتها بالكلية، فلم يزل أصحاب الحياة الكاملة مِن الأنبياء وأصحابهم الكرام يتناولون مِن الشهوات التي أحلَّها الله -عز وجل- ما يستعينون بها على ما أراده الله -سبحانه وتعالى-؛ وليس المطلوب إماتة النفس عن رغباتها بالكلية، ولكن إماتة الأمر بالسوء منها، فالنفس المريضة إذا أُميتت تبقى النفس المطمئنة).

وهذا موضع لا يفهمه إلا أَلِبَّاءُ الناس وعقلاؤهم، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العلية، والنفوس الزكية الأبية" (انتهى من مدارج السالكين).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.