كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبيْن يدي التعليق على خطاب الرئيس الفرنسي "ماكرون"، والأحداث التي تَلَتْه نقدِّم هذا العرض التاريخي؛ لأنه من الواضح أن العقل الجمعي الفرنسي هو عقل دموي سلطوي، سواء كنا نتحدث عن فرنسا البابوية في العصور الوسطى، أو فرنسا الإمبراطورية في بداية العصر الحديث، أو فرنسا المعاصرة!
بداية ظهور فرنسا في التاريخ البشري:
لم تكن فرنسا قبل بعثة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- إمبراطورية، ولا دولة ولا دويلة، بل كانت مجموعة من القبائل التي يَنظر إليها الرومان نظرةَ تَعالٍ، ويعاملونهم على أنها بلاد لن يضيف حكمها شيئًا ذا بالٍ لإمبراطوريتهم، وأن كل ما تحتاجه الإمبراطورية الرومانية من هذه البلاد هو أن يوقفوا عمليات العدوان على الممتلكات التي كانت تأتي من هذه البلاد.
ويمكن اعتبار القرن السادس الميلادي الذي شَهِدتْ نهاياته بعثةَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- هو بداية وجود دورٍ ما لقبائل الإفرنج في ألمانيا وفرنسا بدخولهم النصرانية، ومحاولة الحصول على تأييد البابا بتزكية قادتهم كملوك على بلادهم أو على بقايا الإمبراطورية الرومانية الغربية، والذي تُوِّج في النهاية بتزكية البابا لشارلمان كمَلِكٍ على الإمبراطورية الرومانية ذاتها.
فرنسا تُهادِن وتخطب وُدَّ الخلافة العباسية:
كانت فرنسا في بداية نشأتها تخطب ود الخلافة العباسية في الشرق الإسلامي، بينما كانت تتعرض لهجماتٍ عنيفةٍ من الخلافة الأموية في الأندلس، وقد استطاعت فرنسا أن تقنع الخلافة العباسية بأنها يمكن أن تكون حليفًا لها ضد الإمبراطورية الرومانية في شرق أوروبا؛ ولقد استفادت فرنسا من هذه النوايا وكفت عنها الدولة العباسية التي كان يمكنها أن تصل إليها عن طريق البحر، وتطوقها في نشأتها.
ومِن جملة الاستفادة القدرية التي استفاد منها الغرب الأوروبي: توجه طاقة الدولة الرومانية بشكلٍ كبيرٍ نحو قتال المسلمين، أو الاستعداد للدفاع عن القسطنطينية التي انتقلت إليها عاصمة الدولة الرومانية، وكانت جيوش المسلمين تتتابع عليها في محاولة لفتحها، حتى قال أحد كبار مؤرخيهم -وهو بيرين-: "بدون محمدٍ لا وجود لشارلمان"
"Sans Mahomet pas de Charlemagne".
ولم تكن استفادة فرنسا من المسلمين مجرد انشغال الدولة البيزنطية عن حربهم بحرب المسلمين، ولا حتى الهدنة التي سَلِموا بسببها من هجمات الشرق الإسلامي عليهم، ولكن استفادوا كذلك استفادة علمية تعبِّر عنها قصة الساعة التي أهداها "هارون الرشيد" لشارلمان.
ساعة "هارون الرشيد" وشارلمان:
في حوالي سنة 800 ميلادية، أي: بعد حوالي 200 عام على بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد أن حرر الإسلامُ العقلَ البشري من قيود الخرافة، وطمأن القلب البشري بطمأنينة اليقين بمعرفة خالقه، لينطلق العقل الإسلامي في ميدان عمله مؤسسًا للعلم التجريبي على حساب تخرصات الفلاسفة التي كانت أوروبا ما زالت غارقة فيها! (ومن أراد أن يستجير منها لم يكن أمامه إلا خرافات مِن نوعٍ آخر مع رجال الكهنوت).
وفي ظل هذا التفوق العلمي الساحق للمسلمين آنذاك وقعت تلك القصة الطريفة:
فقد أَهْدَى "هارون الرشيد" إلى شارلمان ساعة نحاسية عجيبة، طولها نحو أربعة أمتار تعمل بقوة الماء، وكانت عجيبة التصميم! فلما رآها الرهبان في بلاط الملك الفرنسي شارلمان خافوا منها أشد الخوف، وجزموا أن الشيطان بداخلها وأنه مَن يحرِّكها (والغرب في ذلك الوقت كان يفسِّر كل معجزة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وكل كرامة لأتباعه أنها مِن فعل الشيطان، ثم زادوا ففسَّروا كل تقدم علمي للمسلمين أنه أيضًا من فعل الشيطان!).
وطلبًا لطرد الشيطان الذي بداخلها قام الرهبان بتكسير تلك الساعة، ولم يجدوا بداخلها ذلك الشيطان، وحزن شارلمان كثيرًا على تلك الساعة، واستدعى أمهر الصناع ليعيدوا إصلاحها ففشلوا، وعرضوا عليه أن يطلب من هارون الرشيد أن يرسِل له مَن يصلحها فخجل من هذا، وقال: "إذا فعلنا هذا؛ فإنما نرتكب عارًا باسم فرنسا كلها!".
والقصة مذكورة في كثيرٍ مِن الكتب المعاصرة، منها كتاب: "تاريخ الدولة العباسية" للدكتورة "إيناس محمد البهيجي"، ويقولون: إنها مذكورة في بعض المراجع الفرنسية، والعجيب أن المراجع العربية خَلَتْ مِن ذكرها! ويبدو أن هارون الرشيد -عفا الله عنه- خجل أن يظهر أنه يهدي هدية لمَلِك يحارب إخوانه في الأندلس، ولنا وقفة مع هذه الجزئية نذكرها في آخر المقالة -بإذن الله-.
دموية فرنسا بين أبناء الدين الواحد قبل أن توجه إلى المسلمين:
في الوقت الذي دَاهَن فيه شارلمان الدولة العباسية وخطب وُدَّها، مَارَسَ في المقابِل -طلبًا لنيل رضا البابا- أشدَّ أنواع التنكيل بكلِّ مَن خالف الكنيسة الكاثوليكية، وهي ممارسات عمَّت أوروبا بأسرها، واستمرت أكثر من عشرة قرون ولم تتخلص منها أوروبا إلا في العصر الحديث بموجة العالمانية التي مهَّدَت لها إنجلترا في القرن السادس عشر الميلادي، ثم جاءت الثورة الفرنسية لتنتصر لها انتصارًا ساحقًا عائمًا على بحورٍ مِن الدم، ولكن الذاكرة الأوروبية غفرتْ للثورة الفرنسية دموية 10 سنوات من الدم مقارنة بدموية الكنيسة التي امتدت أكثر من عشرة قرون!
وإذا كان الدم هو لغة حل الصراعات الداخلية عند الإفرنج، فما بالك عندما يتعلق الأمر بصراعاتٍ خارجيةٍ لا سيما مع المسلمين، فعبر تاريخ فرنسا وبمجرد شعورها بشيء من التفوق العسكري على بلاد المسلمين رمت فرنسا العالم الإسلامي بكثيرٍ مِن الإرهاب والعنف والقتل، ونهب الثروات.
ويبرز هذا في ثلاث محطات رئيسية:
الأولى: الحروب الصليبية في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.
الثانية: الحملة الفرنسية على مصر في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي.
الثالثة: احتلال بلاد المغرب العربي في أوائل القرن التاسع عشر، ثم احتلال سوريا ولبنان في أوائل القرن العشرين ضمن تقسيم التركة العثمانية بينها وبين إنجلترا في اتفاقية "سايكس - بيكو".
ورغم كثرة شواهد العُدوان الفرنسي على المسلمين عبْر تاريخهم، فإن خطاب ماكرون الأخير مرشح وبقوة ليوضع بجوار هذه المحطات الكارثية في التاريخ الفرنسي؛ لا سيما وهو يصدر في ظل نظام يزعم انتهاء حقبة الإمبراطوريات والاحتلال، ويزعم أن الدولة تقف على مسافةٍ واحدةٍ من جميع أديان مواطنيها -كما سنبيِّن إن شاء الله-.
فرنسا تقود الحروب الصليبية بطريقةٍ وحشيةٍ همجيةٍ:
في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي بعد فترة وجيزة جدًّا من استكمال فرنسا لمقومات الدولة مِن: شعب، وأرض، ونظام حكم، كان أول ما حاولت به حجز مقعد لها في التاريخ؛ أن كانت هي موطن تحريض البابا "أروبان" على الحروب الصليبية ضد بلاد المسلمين (الكفار وفق وصفه!).
لقد حرَّض وألهب "أروبان" حماسَ الإفرنج ولمس عدة مفاتيح في العقل الجمعي الأوروبي، ولن تحتاج إلى كبير تأمل لتدرك هذه المفاتيح إذا قرأتَ خطاب أروبان الذي دشَّن به تلك الحروب كما أوردها المؤرخ "جوستاف لوبون" في كتابه: "حضارة الغرب".
وفي هذه الخطبة قال "أروبان": "يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت مِن تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنسًا لعينًا أبعد ما يكون عن الله، قد طغى وبغى في تلك البلاد؛ بلاد المسيحيين في الشرق، قلب موائد القرابين المقدسة، ونهب الكنائس وخرَّبها وأحرقها، وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، ودنسوا الأماكن المقدسة برجسهم، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها في شهرين كاملين... على مَن إذًا تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع إذا لم تقع عليكم أنتم؟! أنتم يا مَن حباكم الله أكثر مِن أي قوم آخرين بالمجد في القتال، وبالبسالة العظيمة، وبالقدرة على إذلال رؤوس مَن يقفون في وجوهكم.
ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم؛ فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا -الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لُوثت ودُنست-، لا تدعوا شيئًا يقعد بكم من أملاككم أو من شؤون أسركم؛ ذلك بأن هذه الأرض التي تسكنونها الآن والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار، وتلك الجبال، ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجز عن أن تجود بما يكفيكم من الطعام، ومِن أجل هذا يذبح بعضكم بعضًا، وتتحاربون ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية. طهِّروا قلوبكم إذًا مِن أدران الحقد، وأقضوا على ما بينكم من نزاع واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج، إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجدًا لا يفنى في ملكوت السماوات".
وبعد هذا التحريض الديني، وذِكر ضيق أوروبا بأهلها، والترغيب في نهب بلاد المسلمين تمت تحركات الحملات الصليبية، وكان مِن أمرها ما كان؛ فكيف كان سلوكها؟
وكيف كانت أخلاقهم في الحرب؟
- قال الراهب "روبرت" -وهو شاهد عيان لما حدث في بيت المقدس- واصفًا سلوكَ قومه -كما نقله عنه "جوستاف لوبون" في كتابه "الحضارة العربية"-: "كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين، وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خُطفت صغـارها! كانوا يذبحـون الأولاد والشباب، ويقطعونهم إربًا إربًا، وكانوا يشنقون أناسًا كثيرين بحبلٍ واحدٍ بغيـة السرعة، وكان قومنا يقبضـون كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعًا ذهبية! فيا للشره وحب الذهب، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث!).
تفنيد الباعث الديني الأساسي للحروب الصليبية:
كان النصارى يأتون من بلاد الإفرنج ليحجون إلى مزاراتٍ لهم في القدس وهم يمرون في طريقهم بكثيرٍ من الأماكن غير الخاضعة لسلطان أي حاكم، فكانوا يتعرضون لغارات سرقة، سواء في أوروبا الغربية أو الشرقية أو في بلاد الشام.
وقد سمحت الدولة الإسلامية آنذاك بقدوم هؤلاء الحجيج، ومعهم عدد من الفرسان يقدِّر بالآلاف لحمايتهم (في حالة مِن حالات التسامح النادرة بالسماح لمقاتلين بدخول حدود دولة أخرى؛ لا سيما في هذا الزمان)، ولكن في النهاية كانت الوفود تعود وقد تمكَّن اللصوص من اصطياد بعض مَن يضل الطريق منهم، فيعودون بخسائر في الأموال والأرواح، وتقمص هؤلاء الفرسان دور مؤلفي الروايات البوليسية ليحكوا عن قتلٍ وتعذيبٍ وأسرٍ تَعرضتْ لهم قوافلهم على أيدي المسلمين (الكفار الأنجاس الملاعين) على حدِّ خطاب أروبان!
وبالطبع لم يعمل أروبان ولا المستمعون إليه عقولهم -أو لم يشاءوا هذا- في أنه لو كانت الدولة الإسلامية بجيوشها راغبة في فعل هذا لما عاد مِن هذا الوفد أحدٌ، وهو يبعد تلك المسافة الشاسعة (مسيرة نحو ثلاثة أشهر بمعايير ذلك الزمان) عن بلده وعن قواته.
إن مَن له أدنى مسكة مِن عقلٍ كان ولا بد أن يدرك كذب هؤلاء الفرسان، ولكن الحقد الديني الأعمى الممتزج برغبة عارمة في ثروات المسلمين؛ دفع أروبان إلى أَنْ يتهم، والجمهور إلى أن يصدِّق، والجيوش إلى أن تتحرك!
هل عامل "صلاح الدِّين" الإفرنج بالمثل؟
إذًا فتحرُّك الجيوش الصليبية كان مدفوعًا بتهمة باطلة شكلًا وموضوعًا، وانتقامهم جاء وحشيًّا همجيًّا، وبينما هذا السلوك الهمجي ماثلًا في الأذهان، وبعد 88 سنة منه فتح "صلاح الدين" القدس.
ومرة أخرى مع "لوبون" يصف لنا "صلاح الدين":
قال "لوبون": "تم طرد الصليبيين من القدس على يد صلاح الدين الأيوبي الشهير؛ وذلك أن صلاح الدين دخل سوريا بعد أن أصبحت مصر وجزيرة العرب والعراق قبضته، وأنه غلب ملك القدس الأسيف "غِي دولوزينيان" وأسره، واسترد القدس في سنة 1187م، ولم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش، فيبيد النصارى على بكرة أبيهم؛ فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم، مانعًا سلب شيء منهم". وحكى غيرُه صورًا من التسامح أبلغ وأوسع من هذا، وفيما ذكر لوبون كفاية لمن أراد العِبْرَة.
فرنسا ترسل حملتها على مصر لوأد صحوة القرن الثامن عشر الإسلامية ولتنهب مكتباتها العلمية:
في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي عندما رمتنا فرنسا بقائدها العسكري الأبرز "نابليون بونابرت"، والذي نصبته الثورة الفرنسية لاحقًا إمبراطورًا على فرنسا في حملة عُرفت: بـ"الحملة الفرنسية على مصر"، وهي حملة تختلف عن حملات الاحتلال الأوروبي لبلاد المسلمين، والتي جاءت بعد هذا التاريخ بنحو قرنٍ من الزمان، ولكنها كانت حملة غرضها الأصلي تثبيت بلاد المسلمين على حالة الضعف التي كانت قد ألَمَّت بها، ووأد "الصحوة الإسلامية" التي وُجدت آنذاك، مع "نهب الكتب"؛ كل الكتب المتعلقة بعلوم الدِّين، والمتعلقة بعلوم الدنيا.
ونهب الكتب قبل زمن الطباعة أمرٌ في غاية الخطورة والعدوانية؛ لا سيما في فترةٍ غفوةٍ؛ لأن نهب الكتب في هذه الحالة يعني الحيلولة بين هذه الأمة الإسلامية وبين علومها؛ لقطع طريق نهضتها، في حين أخذت هذه الكتب إلى حيث أكبَّ عليها العلماء الفرنسيون.
وللعلم: وقت الحملة الفرنسية على مصر لم تكن أوروبا متقدمة على مصر عسكريًّا من ناحية الكيف، وإن كانت متقدمة مِن حيث الكم؛ لكون جيوش مصر آنذاك لم تكن إلا حاميات لحفظ الأمن والتجارة، وأما التقدم النوعي الأوروبي فحدث بعد الحملة الفرنسية على مصر.
بل يمكن القول: إن الفروق التقنية بين المسلمين والأوروبيين لم تصل إلى حدٍّ مؤثِّر إلا بعد الحرب العالمية الأولى، وهذا التقدم الأوروبي اعتمد في العصور الوسطى على جامعات الأندلس، وفي العصر الحديث على ما نهبته الحملة الفرنسية من مكتبات القاهرة العامة والخاصة.
"محمد كريم" ملحمة مِن ملاحم الجهاد في مقاومة الحملة الفرنسية:
عندما خرج "نابليون" بحملته خشيت إنجلترا من حجم هذه الحملة، وأن تكون في سبيلها للسيطرة على مركزٍ مهمٍ في طريق الهند المتنازَع عليه بينهما؛ فخرج "نلسون" يجوب البحر المتوسط بحثًا عن سفن "نابليون"، وغلب على ظنه أنه متجه إلى مصر فسبق إليها ورسا بسفنه، وأرسل يطلب مقابلة حاكم الإسكندرية "الشيخ محمد كريم"، وطلب منه السماح لجنوده بالنزول إلى الإسكندرية ليدافعوا عنها أمام الأسطول الفرنسي المنتظر وصوله فرفض.
جاء "نابليون" إلى الإسكندرية ومعه معلومات دقيقة أمدَّه بها المستشرقون الذين كانوا يقومون بدورٍ مزدوجٍ في الدراسة العميقة للثقافة الإسلامية، والجمع الاستخباراتي.
كان "نابليون" يعلم أن حامية الإسكندرية ليس فيها إلا بضعة مدافع متهالكة، وعدد محدود من المماليك، وبالتالي كان نابليون يتوقع استسلامها بمجرد أن ترى صواري سفنه وهي ما زالت بعدُ في عُرض البحر، ولكن الشيخ "محمد كريم" كان له رأي آخر، فقاد مقاومة شرسة بتلك المدافع المتهالكة، وأرهق قوات نابليون أيما إرهاق!
وفي النهاية: غلبت الكثرة الشجاعة، ووقع الشيخ الجليل "محمد كريم" في أسر نابليون؛ فأطلق سراحه وأبقاه حاكمًا على الإسكندرية طمعًا في استمالته (وهذا السلوك الفرنسي القديم في محاولة اتخاذ أذرع إسلامية تتحدث بلسانه وتدعو إلى ما يريد؛ كان وما زال سبيلهم!)، ووضع معه كليبر حاكمًا عسكريًّا، ورحل إلى القاهرة ليفاجأ بأن كليبر قد أرسل إليه أن محمد كريم مستمرٌ في إعداد المجاهدين، وتنظيم أعمال مقاومة الحملة الفرنسية، فأرسل الى نابليون في القاهرة ليحاكمه (لم يكن مصطلح الإرهاب هو المفضَّل لدى القوم حينها كتهمةٍ لكلِّ مَن يقاوِم احتلالهم لبلاد المسلمين، ولكن اتهموه صراحة بمقاومتهم) وحكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص، ونُفذ الحُكم ظهرًا في ميدان القلعة.
سلوك الحملة الفرنسية على مصر صورة طبق الأصل من الحملات الصليبية:
يحكي لنا "الجبرتي" ردَّ فعل نابليون وجنوده على ثورة القاهرة الأولى بعد ما نفذت ذخيرة المجاهدين (وراجع ما ذكرناه مِن أن تفوق الفرنجة في ذلك الوقت كان كميًّا وليس نوعيًّا، وأنه كان راجعًا في المقام الأول إلى إهمال المماليك والعثمانيين على حدٍّ سواء لمصالح بلاد المسلمين، وإلى الله المشتكى).
قال الجبرتي -رحمه الله-: "وبعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع كأنهم الشياطين أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، ودخل طائفة من باب البرقية ومشوا إلى الغورية وكروا ورجعوا وترددوا ما هجعوا، وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين، وتراسلوا إرسالًا ركبانًا ورِجالًا، ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأروقة والحارات... ".
وكلامه بعدها فيه مزيد مِن التفاصيل عن جرائم السَّرِقَة والنهب والقتل للمارة العزل حتى فيمَن لم يعرف أنه شارك في مقاومتهم.
احتلال بلاد المغرب العربي في أوائل القرن التاسع عشر ثم احتلال سوريا ولبنان في أوائل القرن العشرين ضمن تقسيم التركة العثمانية بينها وبين إنجلترا في اتفاقية "سايكس - بيكو":
بعد فشل حملتها على مصر وتزامن هذا مع اندلاع الثورة الفرنسية، لم يتغير الوجه الاستعماري القبيح لفرنسا -بعد ثورة زعموا أنها مَن نشرت مشاعل الحرية في العالم!- فتم احتلال الجزائر سنة 1830م، ومِن بعدها: تونس سنة 1881م، ثم جيبوتي 1884م، ثم المغرب 1912م، ثم سوريا ولبنان بمقتضى اتفاقية العار "سايكس - بيكو" سنة 1920م.
وعندما رفضت سوريا تنفيذ الانتداب الفرنسي -(الاسم اللطيف الذي شرعنت به عصبة الأمم الرضوخ لما هو مقرر سلفًا باتفاقية سايكس - بيكو")، قامت فرنسا باحتلال عسكري صريح لسوريا، وكان لها في كل بلد من هذه البلاد الكثير مِن جرائم الحرب التي هي امتداد لذات سلوكهم في الحروب الصليبية.
تعليقات ودروس مستفادة من هذا التاريخ
1- الأخوة الإيمانية والجهاد في سبيل الله وأثرهما في النصر على الأعداء، ورد عدوانهم على المسلمين:
مِن هذا العرض الموجز يتبيِّن كيف استفادت فرنسا في بداية نشأتها من انقسام العالَم الإسلامي (وكان آنذاك منقسمًا إلى دولتين فقط: الخلافة الأموية في الأندلس، والخلافة العباسية في بقية العالم الإسلامي).
وفي المقابل: رأينا أثر سريان الإيمان بالوحدة الإسلامية في اندحار الحروب الصليبية، ورغم أن العالم الإسلامي وقتها كان ممزقًا إلى دويلاتٍ، لكن وجود روح الأخوة الإيمانية صهرت المصري والشامي والكردي؛ ليصنعوا معًا ملحمة إنقاذ بيت المقدس بعد ما وَقَع في براثن الصليبيين.
ومرة أخرى: كانت الحملة الفرنسية والتي مِن جهة استفادت مِن خيانة بعض أمراء البلاد الساحلية فى الشام، ولكن رأينا مِن خلالها كيف كان الأزهر مقصد طالبي العلم الشرعي، وكيف أقدم أحدُهم، وهو: "سليمان الحلبي" -رغم عدم مصريته- على قتل "كليبر" قائد الحملة بعد نابليون، وهو يعلم أن هذا يؤدي إلى قتله حتمًا.
هذا هو الجهاد، وهذه هي الوحدة الإسلامية التي تجلت عبْر تاريخ المسلمين في خلافة جامعة لأقطار العالم الإسلامي، فإن كان هناك عجزٌ عن هذه الصورة؛ فلا أقل من استبقاء معانيها.
وهذا ما أخذته أوروبا عنا في مرحلة ما بعد الدولة القطرية الحديثة، حينما أقاموا الاتحاد الأوروبي بخطواتٍ محسوبةٍ، وإجراءاتٍ تدريجيةٍ
2- مَن المستفيد مِن نشر "المفهوم الداعشي" للخلافة والجهاد؟!
عن البحث عن فاعل جريمة ما، تقول القاعدة: "ابحث عن المستفيد".
وفي الواقع فلسنا في حاجةٍ إلى كبير بحثٍ أو عناءٍ؛ فقوام "داعش" الرئيسي مكون من مسلمين أوروبيين مُنعوا مِن التواصل مع منابع المنهج الإسلامي الوسطي، وسُهِّل لهم السفر إلى منطقة الصراعات في العراق وسوريا، ومُنحوا منابر إعلامية وإمكانات هوليودية في إخراج مقاطعهم المرئية!
وكل هذا والدول الكبرى تحرس مياه البحر المتوسط، وتحتل سماء العراق وسوريا!
وبالتالي: فلا بد من وجود رغبة لدى شرطيي العالم في انتشار "داعش"، والاستفادة واضحة؛ فهؤلاء يقدِّمون صورة منفِّرة عن الإسلام ككل بصفةٍ عامةٍ، وعن قضيتي: الخلافة والجهاد بصفةٍ خاصةٍ
فماذا يريد منا الغرب؟!
الغرب حينما يعارض الخلافة الإسلامية لا يعارِض تهور "داعش" -ولا غيرها-، حيث يظنون أن السبيل إلى الوحدة الإسلامية هو تمزيق بلادهم ومحاربة جيوشها بدلًا من تقويتها، والعمل على زيادة التعاون التدريجي بينهم، وكذلك الغرب حينما يعارض الجهاد لا يعارض سفكَ دماء المسلمين، والعُدوان على المعاهدين والمستأمنين الذي تفعله "داعش"، وغيرها و إنما يعارض الجهاد الذى الذى سطر أبطال الإسلام بطولاته مع التزامهم بأخلاقه الواردة فى شريعتهم فى وقت لم يكن يتصور الآخرون أن كلمتى الاخلاق و الحرب يمكن أن يجتمعا فى سياق واحد
وإنما يريد الغربُ: أن يُفْقِدَ الأمة قدرتها على إيجاد "صلاح الدين"، و"محمد كريم" مرة أخرى.
إنهم يريدون: عالمًا إسلاميًّا ممزقًا يلعبون فيه على وتر الخلافات.
ويريدون: شعوبًا مستكينة لا تعرف الجهاد حتى ينزلون بساحاتهم متى شاءوا، ويرحلون عنها متى شاءوا.
يريدون: مِن الرموز الإسلامية ما أراده "نابليون" مِن "محمد كريم"؛ فلما لم ينله قتله، وقد ناله من غيره ممَن رضوا أن يكونوا في عضوية ديوان أنشأه من علماء ووجهاء في القاهرة، ورغم أنهم كانوا مهابين ا قبل أن يسقطوا تلك السقطة، فلما سقطوها سقطوا في أعين الناس وفي أعين بونابرت، فكانت واسطتهم في ثورة القاهرة الأولى هي والعدم سواء؛ لم يأبه لها أي مِن الطرفين.
ومِن ثَمَّ يريدُ الغربُ: المذاهبَ التي تغلو في الرجال -مِن الأموات والأحياء- مِن الشيعة وغلاة الصوفية؛ لأنهم بغلوهم في الأموات يقدِّمون دليلًا على الادِّعاء الكاذب أن دِين الإسلام كغيره من الأديان التي هجرها أصحابها؛ لما فيها مِن خرافةٍ.
وبغلوهم في الأحياء يضمنون أن القضية في بضعة أشخاص إذا أمكن إغواؤهم أو حتى خداعهم تتم السيطرة على الجميع، وبمثل هذا سيطر الأمريكيون على العراق بعد هزيمة "صدام حسين"، ولكن أهل السُّنة يبقى دائمًا إخلاصهم لدين الله، ومحبتهم لعلمائهم مقيدة باستقامتهم على شرع الله، لا يؤثِّر فيهم زلة عالم أو غلو عابد، ومِن ثَمَّ عجزوا عن استثمار مَن استمالوه في أن تميل معه الأمة ككلٍّ في الماضي، وهم -بفضل الله- في الحاضر أعجز، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون) (يوسف:21).
وهذا الذي يريده منا الغرب في بلادنا وفي عقر دارنا، يريد "الفرنسيون" مثله -وزيادة- مِن المسلمين فى فرنسا ، ومِن هنا جاء خطاب "ماكرون" الأخير.
وهو ما سنتناوله في المقالة القادمة -إن شاء الله-.