الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 13 أغسطس 2020 - 23 ذو الحجة 1441هـ

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (39) آيات من القرآن في ذم القسوة (17)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:22-23).

قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ).

يقول -تعالى ذكره-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا): يعني به القرآن، (مُتَشَابِهًا): يقول: يشبه بعضه بعضًا، لا اختلاف فيه، ولا تضادّ.

وروي عن قتادة قوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا) الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف، (ومعنى الحرف الكلمة).

وعن السديّ: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا) قال: المتشابه: يشبه بعضه بعضًا.

وعن سعيد بن جُبَير قال: يشبه بعضه بعضًا، ويصدّق بعضه بعضًا، ويدلّ بعضه على بعض.

وقوله: (مَثَانِيَ) يقول: تُثنَّى فيه الأنباء والأخبار، والقضاء، والأحكام والحجج.

ثم رَوَى عن الحسن: (مَثَانِيَ): ثَنَّى الله فيه القضاء، تكون السورة فيها الآية في سورة أخرى آية تشبهها، وسئل عنها عكرمة (يعني: فأجاب بمثل ذلك).

وعن مجاهد قوله: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) قال: في القرآن كله، (يعني: أن القرآن كله متشابه، وليس كما قسِّم المتشابه في آية آل عمران، أنه قسيم المحكم).

ورَوَى عن قتادة (مَثَانِيَ) قال: ثَنَى الله فيه الفرائض، والقضاء، والحدود، (يعني: حدود الحلال والحرام، ما يفصل بين الحلال والحرام).

وعن ابن عباس قوله: (مَثَانِيَ) قال: كتاب الله مثاني، ثَنّى فيه الأمر مرارًا.

وعن السديّ في قوله: (مَثَانِيَ) قال: كتاب الله مثاني، ثَنّى فيه الأمر مرارًا.

وعن السديّ أيضًا، في قوله: (مَثَانِيَ) ثنَّى في غير مكان.

عن ابن زيد في قوله: (مَثَانِيَ) مردّد، رُدِّد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء في أمكنةٍ كثيرةٍ.

قوله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) يقول تعالى ذكره: تقشعرّ من سَماعه إذا تلي عليهم جلود الذين يخافون ربهم، (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) يعني: إلى العمل بما في كتاب الله، والتصديق به.

وذُكِر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- من أجل أن أصحابه سألوه الحديث.

ثم ذكر بسنده عن ابن عباس قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا؟ قال: فنـزلت: (اللَّهُ نـزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ).

(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ): يقول تعالى ذكره: هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم، ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكر الله بعد ذلك، (هُدَى اللَّهِ) يعني: توفيق الله إياهم وفَّقهم له (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) يقول: يهدي -تبارك وتعالى- بالقرآن مَن يشاء مِن عباده.

وقد يتوجَّه معنى قوله: (ذَلِكَ هُدَى) إلى أن يكون ذلك مِن ذكر القرآن، فيكون معنى الكلام: هذا القرآن بيان الله يهدي به مَن يشاء، يوفِّق للإيمان به مَن يشاء.

وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ): يقول -تعالى- ذكره: ومَن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه، فيضله عنه، فما له مِن هاد، يقول: فما له من مُوَفِّق له، ومُسدد يسدده في اتباعه".

قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره قوله -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ): "وَرَوَى مُرَّةُ عن ابن مسعود قال: قلنا: يا رسول الله، قوله -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) كيف انشرح صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح. قلنا: يا رسول الله، وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله".

وخرَّجَه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث ابن عمر: أن رجلًا قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم له استعدادًا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع. قالوا: فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله" (لا يصح مرفوعًا)؛ فذكر خصالًا ثلاثة، ولا شك أن مَن كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان، فإن الإنابة إنما هي أعمال البر؛ لأن دار الخلود إنما وضعت جزاءً لأعمال البر، ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع في تنزيله ثم قال بعقب ذلك: (جَزَاءً بَمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17)؟! فالجنة جزاء الأعمال، فإذا انكمش العبد في أعمال البر (انكمش أي: انحصر فيها)؛ فهو إنابته إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصه عن الدنيا، ولهى عن طلبها، وأقبل على ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع؛ فقد تجافى عن دار الغرور، وإذا أحكم أموره بالتقوى فكان ناظرًا في كل أمر، واقفًا متأدبًا متثبتًا حذرًا يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه؛ فقد استعد للموت، فهذه علامتهم في الظاهر.

وإنما صار هكذا لرؤية الموت، ورؤية صرف الآخرة عن الدنيا، ورؤية الدنيا أنها دار الغرور، وإنما صارت له هذه الرؤية بالنور الذي ولج القلب.

وقوله -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم) المراد به: أبو لهب وولده، ومعنى: (مِنْ ذِكْرِ الله): أن قلوبهم تزداد قسوة من سماع ذكره. وقيل: إن (مِن) بمعنى عن، والمعنى: قست عن قبول ذكر الله. وهذا اختيار الطبري. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -تعالى-: اطلبوا الحوائج من السمحاء؛ فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم؛ فإني جعلت فيهم سخطي" (لا يصح مرفوعًا)، وقال مالك بن دينار: ما ضُرب عبد بعقوبةٍ أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم".

وقال القرطبي -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ): "الثانية: عن أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- قالت: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قُرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قيل لها: فإن أناسًا اليوم إذا قُرِئ عليهم القرآن خرَّ أحدهم مغشيًا عليه؛ فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: مرَّ ابن عمر برجلٍ من أهل القرآن ساقط، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط، ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.

وقال عمر بن عبد العزيز: ذُكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطًا رجليه، ثم يُقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رَمَى بنفسه فهو صادق (يعني: إنما هو ادعاء، ولا يفعله إذا وَجدَ خَطَر السقوط من سطح بيتٍ).

وقال أبو عمران الجوني: وعظ موسى -عليه السلام- بني إسرائيل ذات يوم، فشقَّ رجل قميصه، فأوحى الله إلى موسى: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه؛ فإني لا أحب المبذرين، يشرح لي عن قلبه (يعني: الله -عز وجل- مُطَّلِعٍ على ما في قلبه، فلا يحتاج إلى شق صدرٍ ليراه الله).

الثالثة: قال زيد بن أسلم: "قرأ أُبي بن كعب عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه فرقُّوا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة" (مرسل).

وعن العباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها"، وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار".

وعن شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة، أما تجد إلا قشعريرة؟ قلت: بلى، قالت: فادع الله؛ فإن الدعاء عند ذلك مستجاب.

وعن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يُستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعرَّ جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي... 

قال القرطبي -رحمه الله-: وقيل: إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته، اقشعرت الجلود منه إعظامًا له، وتعجبًا من حسن ترصيعه وتهيبًا لما فيه، وهو كقوله -تعالى-: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر:21)، فالتصدع قريب من الاقشعرار، والخشوع قريب من قوله: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)، ومعنى لين القلب: رقته وطمأنينته وسكونه.

(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ) أي: القرآن هدى الله. وقيل: أي: الذي وهبه الله لهؤلاء من خشية عقابه ورجاء ثوابه هدى الله. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) أي: مَن خذله فلا مرشد له. وهو يرد على القدرية وغيرهم" (انتهى من تفسير القرطبي).

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا للين القلب، وقشعريرة الجلد، عند سماع القرآن وتلاوته.