كتبه/ وائل رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما بين عشية وضحاها، يجد المغتربون أن الأيام قد مرت بهم سريعًا؛ فمنهم مَن مضى على رحيله مِن بلده عشر سنوات أو عشرون سنة، أو ربما أكثر، وقد لا يتذكر بعضهم تحديدًا متى غادر؟ وقرر أن يبدأ رحلة الاغتراب.
ولا ينكر أحدٌ أن الانسلاخ عن الوطن ومفارقة الأهل والأحباب من أصعب الأشياء على النفس؛ لذلك كان من أشد العقوبات: التغريب، أو النفي، أو التهجير، أو الإجلاء.
قال الرافعي القزويني: "ولولا نزوع النَّفس إلى مسقط الرَّأس، ودائرة الميلاد، لم ينزل قول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص:85)، فالغربة على ما فيها مِن فوائد ومصالح؛ إلا أنها تمثِّل آلامًا ومعاناة للمغتربين.
ومِن هنا كانت هذه الوصايا والوقفات لضبط البوصلة، وحتى لا نفاجأ أنَّ سنوات العمر قد ضاعت منا بلا فائدة وبغير رجعة:
أولًا: أنت على باب عظيم من أبواب الخير، ونوع من أنواع الجهاد، فأحسن نيتك، والتزم طاعة الله -تعالى- بأداء فرائضه، واجتناب محارمه، فما قيمة المال والمسكن والوظيفة والعيش الرغيد في غير طاعة الله -تعالى-؟! فاستثمر عمرك في الغربة في علمٍ نافع، أو عملٍ صالحٍ، أو خيرٍ تقدمه للمسلمين.
ثانيًا: لا تتسخط على أقدار الله، بمجرد أنك تمر بظروف عصيبة في تلك الغربة، فتحلَّ بالصبر، وتذكر أنك في اختبار من الله -تعالى-؛ ليَبْلُوَكَ أتشكر أم تكفر؟
ثالثًا: الغربة وسيلة وليست غاية، فحدد هدفك من السفر، وقلل سقف طموحاتك قدر المُستطاع، كي لا تتحول الغربة إلى غاية، فتعيش في دوامة لا تنتهي.
رابعًا: لا تؤجل سعادتك؛ فتعيش على هامش الحياة، ووازن بين حقوقك وواجباتك، فلا تهمل حق نفسك من المأكل والملبس والمشرب من غير إسراف، وأعطِ كل ذي حق حقه مِن برٍّ للوالدين، وإحسان لهما، وتواصل دائم بهما، ومراعاة لحقوق الزوجة من نفقة، ورعاية، وإعفاف؛ فلا تغب عنها بالقدر الذي يضر بها، وكذلك أبناؤك؛ فهم أمانة في عنقك، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ... ) (متفق عليه).
خامسًا: الزم مصاحبة المؤمنين؛ فالصحبة الصالحة في الغربة بمنزلة الأهل والوطن، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) (رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني)، والصديق الصالح في الغربة نعمة ربانية، ومنحة إلهية، لا تقدر بثمن، ولا يستعاض عنها بكنوز الأرض.
سادسًا: إياك ومجالس السوء! تلك المجالس التي يكثر فيها القيل والقال، والغيبة والنميمة، أو الانتقاص من عرض فلان، أو التدخل في شئونه الخاصة، وقد يكون الدافع إلى ذلك أحيانًا الغيرة، أو الحقد، أو الحسد، فاحذر تلك المهالك!
سابعًا: لا تجمع على أولادك غربتين: غربة الوطن، وغربة الأهل؛ ففي الغربة يدفع الأبناء ثمنًا باهظًا، فهم معزولون عن أبناء أعمامهم وعماتهم وخالاتهم وأخوالهم؛ لا صلة رحم، ولا معرفة بهم، ومع الزمن يصبحون غرباء؛ فحببهم إلى أقاربهم، ولا تنقل لهم أخبارًا سيئة عنهم، دعهم ينشئون بقلوبٍ سليمةٍ، ونوايا صافية، وعلِّمهم حسن الخلق، وصلة الرحم.
ثامنًا: أخي الحبيب، اعمل في غربتك كأنك تعيش فيها أبدًا، وتعلق بوطنك كأنك تسافر إليه غدًا، وثق أن رزق الله -تعالى- لن ينقطع عنك إلا مع آخر نفس لك؛ فأحسن الظن بربك، وأنه سيفتح لك من أبواب الخير ما تقر به عينك، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فله) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).