الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 17 أكتوبر 2019 - 18 صفر 1441هـ

بناء الأمم وبقاؤها

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبحث الإنسان عن السعادة مسألة فطرية؛ فَطَر الله عليها الناس أفرادًا وجماعات، وأكثر الناس يظنون السعادة في الأشياء المادية، مِن: طعام، وشراب، وممارسة جنسية، ولباس، ومسكن، ومركب، وأنواع الرفاهية والترف، ويظنون أن الدول الناجحة هي التي توفِّر لأهلها ذلك، ويضاف في الدول أيضًا: الرغبة في العُلُوِّ وقهر الآخرين واستضعافهم، وتملك أموالهم وثرواتهم بحرمانهم منها، والاستمتاع بها دونهم!

وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ليبيِّن للناس أن السعادة لا تحصل بذلك؛ بل بتحقيق الدين والإيمان والعبودية لله؛ التي هي حياة القلب، وفي الأثر المذكور عن المسيح -عليه السلام-: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكن بكل كلمة تخرج من الرب".

أما القرآن الكريم: فقد امتلأ بيانًا لهذه المسألة، قال الله -تعالى-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ . كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (التكاثر:1-4)، أي: تعلمون العاقبة السيئة للتكاثر وحبوط ذلك، وقال -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ . سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) (الحديد:20-21)، وقال -تعالى-: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (الكهف:46).

مع أن الإسلام جاء ليخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فهو يجمع للناس خير الدنيا والآخرة، وسعادة الدنيا والآخرة؛ وذلك بتغيير اهتماماتهم وأولوياتهم، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)، فالدنيا تأتي راغمة لمَن تقرب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأراد الدار الآخرة كأكبر الهَمِّ، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي كما رواه عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي، أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَمْلأْ يَدَيْكَ رِزْقًا، يَا ابْنَ آدَمَ، لا تَبَاعَدْ مِنِّي، فَأَمْلأْ قَلْبَكَ فَقْرًا، وَأَمْلأْ يَدَيْكَ شُغْلا) (رواه أحمد والترمذي والحاكم واللفظ له، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"، وصححه الألباني).

فالإيمان والتقوى تتحقق بهما سعادة الدنيا والآخرة؛ وتحصل بهما القناعة التي هي أساس السعادة، ويزول السخط الذي هو أساس الشقاء، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني)، مع أن الدنيا تأتي لمَن ابتعد عنها، وتفر ممَن طلبها؛ فلا يشبع منها طالب، وإنما يسعد بها مَن استغنى عنها.

وكذلك في أمر الدوَل والأمم: بَيَّن -سُبْحَانَهُ- أن الإيمان سبب بقاء الأمم على الخير، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96)؛ فالتكذيب والكسب السيء سبب نزول العقوبة من الله، وحصول الدمار للأمم، كما قص الله -عَزَّ وَجَلَّ- علينا في كتابه، وقال عن اليهود والنصارى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة:66)؛ فكيف بمَن يقيم القرآن الذي رفع الله -تعالى- فيه الآصار والأغلال التي كانت عليهم بذنوبهم وظلمهم في الشرائع السابقة؟!

وقال في بيان سبب هلاك الأمم وزوال عِزِّها: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112)، وقال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (سبأ:15-17).

وبَيَّنَ -عَزَّ وَجَلَّ- كيف يُهلك الأمم والدول بعدلِه -سبحانه وتعالى- فقال: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء:16)؛ فدَلَّت الآية الكريمة على أن الترَف والفسق به هلاك الأمم، ودَلَّ مفهوم المخالفة على أن ترك الترَف وإقامة التقوى في الناس سبب لبقائها.

وبَيَّن -سُبْحَانَهُ- أن الظلم سبب للدمار مهما كان الملك موطَّدًا وذا أوتادٍ، فقال -تعالى-: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:3-6)؛ فقهر العباد وظلمهم واستعبادهم سبب انهيار الممالك الظالمة.

والمسلمون إنما أرادوا فتح البلاد لسعادة أهلها في الدنيا والآخرة بدخولهم في الإسلام، ولم يكن الفتح استعبادًا للناس وقهرًا لهم، بل أزالوا ممالك الظلم والعدوان والقهر، ورَبَّوا الشعوب على الدين، وصار أئمة المسلمين مِن الموالي الذين سُبُوا صغارًا فرَبَّاهم الصحابة -رضي الله عنهم- كأبنائهم، كعكرمة مولى ابن عباس -عَلَّمَه ابنُ عباس وهو عنده صغير-، وسعيد بن جبير كان مولى، وكذلك الحسن البصري مولى، ونافع مولى ابن عمر -رضي الله عنهما- مُقَدَّم في الرواية عن ابنه سالم، وهو شيخ الإمام مالك؛ فدَلَّ على أنه كان يُرَبِّيه كابنه تمامًا، وأمثال هذا كثير جدًّا يصعب إحصاؤه.

والأَثَرة مِن أسباب زوال المُلك، وإن كان الطريق إلى إزالتها ليس بالحرب الداخلية؛ فإنها تؤدي إلى أعظم المفاسد شرعًا، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأنصار: (إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: (تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ) (رواه البخاري)، فأَمَرَهم بالصبر على استئثار بني أمية بالمال والسلطة رغم استحقاق الأنصار والمهاجرين قبلهم، ولما حاول البعض مقاومة ذلك بالقوة والثورة المسلحة وقعت المجازر الفظيعة: كقتل الحسين -رضي الله عنه-، ووقعة الحرة واستباحة المدينة، وعشرات الألوف الذين قَتَلَهم الحجاج بن يوسف المُبِير الذي أخبر عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: (إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا، وَمُبِيرًا) (رواه مسلم).

وقاوم بنو أُمَيَّة الإصلاح الداخلي الذي حاوله عمر بن عبد العزيز، مع أن الأمة عاشت في زمنه سنتين أسعد سنينها عبر التاريخ، وصارت خلافته خلافة راشدة، ثم عاد المُلك العَاضُّ بعد وفاته، ولكن سَلَّط الله على بني أمية بني العباس، على نفس شاكلتهم من الظلم والأَثَرة؛ فسَامُوهُم سوء العذاب، وأشد أنواع الاضطهاد في الممالك كلها، ويَذكر ابن كثير أن أبا مسلم الخراساني قَتَل في تشييد ملك بني العباس ستمائة ألف نفس، ثم كانت عاقبته أن قُتِل شر قتلةٍ على يد بني العباس؛ فسبحان الله! الجزاء مِن جنس العمل.

والترَف مُقَدِّمة الهلاك؛ ذكر ابن كثير أيضًا: أن أبا جعفر المنصور بنى قصرًا في بغداد سماه: "قصر الخُلْد"، فلما أن اكتمل واستعد للانتقال إليه مات!

فالعدل هو وضع الشيء في موضعه وفق شرع الله؛ به تبنى الأمم، وبه تبقى، وحسن توزيع الثروة والتكافل بين الأغنياء والفقراء، وترك الترف، سبب تماسك المجتمع وبقاء الدولة، وكثرة الطاعات وقلة المعاصي، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، به بناء الأمم، وبه تُبنى وبه تبقى، وعكس ذلك سبب الدمار والخراب، قال -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود:116)، فإنما ينجو مَن قام بالنهي عن الفساد في الأرض كما دَلَّت عليه الآية.

وقال -تعالى- في قصة أصحاب السبت: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (الأعراف:165-166)؛ فهلا حافظنا على أسباب بقاء أمتنا!

اللهم نجِّ المسلمين في كل مكان.