كتبه/ يحيى الصافي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فللاتصال أهمية عظيمة في حياة المسلم؛ فهو بالنسبة له هو "الحياة"، ولا يبالغ المرء أبدًا حين يطلق مقولة أن: (الاتصال الحياة)، أو يعيد النظر في التاريخ باعتباره علاقات قائمة على الاتصال.
يقول المفكر ألبير كامو: "إن تاريخ الحضارة هو تاريخ الاتصال".
الاتصال يعني التفاعل والتفاهم لتبادل الأفكار والمعارف والقيم للفرد والجماعة، وتلك خصال بشرية لصيقة بالإنسان، ورواد الاتصال الأوائل هم الأنبياء الذي كانوا جميعًا يحرصون على توصيل رسالتهم بشتى السبل، ولقد لاحظ مشركو مكة ذلك فقالوا: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان:7).
وتتنوع أشكال الاتصال بيْن الاتصال المباشر: كالدعوة الفردية، والاتصال الجمعي: كالخطبة والدرس والمحاضرة، والاتصال غير المباشر: كالمراسلات والرسائل والنصائح، وينتظم ذلك كله الاتصال بالقدوة فيصبح الداعية نورًا، ويحمل نورًا يمشي به في الناس.
وكل ذلك بلغة المدعوين: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم:4)، واللغة ليست محصورة في اللسان الناطق المبين، بل كذلك تشمل وسيلة التواصل المبينة المناسبة لبيئة المدعوين، وتفاوت سنهم، وثقافتهم ومجتمعهم.
خذ مثالًا: "قول نوح -عليه السلام-": (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا . فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا . مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا . وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا . أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا . وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) (نوح:9-16).
إنه -عليه السلام- يشير إلى أنه مارس كافة أنواع الاتصال الفردي والجمعي: (أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ)؛ كما أنه عرض رسالته بكافة سبل الإقناع؛ واستخدم كافة الاستمالات العاطفية التي تبشِّر بمآلات طيبة (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ)؛ والاستمالات العقلية: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ... ) التي تقنع العقل وتستحث على التفكير، وهكذا كلما تعرف الداعية على مكونات عملية الاتصال، وأتقن التعامل معها، وتعرف على كيفية التأثير وطرق الاستمالات، وكيف يستخدمها دون مبالغةٍ، ودون تهيب أو تسيب؟
وكلما انتبه كذلك لعمليات التشويش على الرسالة مِن أكابر مجرميها، وتخلص منها، وعلم أن الدعوة كما هي طلب هداية: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)، هي أيضًا طلب استبانة لسبيل المجرمين: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:7)، قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55)، استطاع توظيف تلك المعرفة وتوجيهها ليفيد دعوته، ويوصل رسالته بأفضل السبل وبأيسر الطرق.
ومن هنا؛ فلكل عصر مداخله واستمالاته التي يجب أن يدركها الداعية، وهذا لا يتأتى إلا بمخالطة المدعوين وفهم توجهاتهم وتطلعاتهم، وعندها يقف ويسأل نفسه: ماذا يريد هؤلاء؟! وماذا أريد أنا منهم؟!
فكلما كانت الإرادتان متباينتين متباعدتين كان الجهد أكبر، والعمل أشق ونجاح الداعية هو أن يقرِّب إرادة المدعو لإرادته، وكلما كانت إرادة الداعية أقرب إلى مراد الله غاية ووسيله كان أخلص نية، وأفقه بصيرة، مع العلم أن الغاية مطلقة ثابتة، والوسيلة متغيرة نسبية تدور مع الزمان والمكان صلاحًا وفسادًا، فما ينفع في زمان مضى قد لا يصلح لزماننا، وما يصلح عند غيرنا قد لا يصلح عندنا.
وعلى قدر فهم الداعية لمتغيرات زمانه ومكانه، وإدراكه لنفسية المدعو -ولو أننا مهتمون بتشقيق المصطلحات لأبدعنا ما يمكن أن نسميه: (علم النفس الدعوي)- على قدر إدراك الداعية لذلك كله، على قدر تفرده وإبداعه في وسائل الدعوة وطرائقها، ومعه نور الوحيين يمشي بهما في الناس مجاهدًا صابرًا عالمًا، داعيًا إلى الله على بصيرة، وحينها سوف يفتح الله له مِن رحمته، ويرى مَن خالطهم ودعاهم واقترب منهم، وأحسن معهم الاتصال، وأدام معهم التواصل؛ فلسوف تقر عينه وهو يراهم على سبيل الرشاد، وقد قادهم إلى مرضاة الله -تعالى-.