كتبه/ نصر رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإنَّ الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال؛ اتّسع صدره وامتدّ حلمه، وتطلّب للناس الأعذار، والتمس لأخطائهم المسوغات، وأخذهم بالأرفق مِن حالهم, فالشجرة الطيبة تطرح ثمارًا طيبة، والشجرة الخبيثة تطرح ثمارًا خبيثة، وقد قيل: "مِن ثمارهم تعرفهم، وهل تَجْني مِن الشوك عنبًا، أم مِن العوسج تينًا؟!".
ومِن هؤلاء العظماء, أصحاب النفوس الكبيرة, الإمام الرباني، مفتي الأمة، وبحر العلوم، وسيد الحفاظ، فريد عصره, بركة الأنام، وعلامة الزمان، وترجمان القرآن، عَلَمُ الزهاد، وقامع أهل البدع والعناد، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس, أحمد بن عبد الحليم بن مجد الدين بن تيمية الحراني، نزيل دمشق، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها.
قال ابن سيد الناس: "كاد يستوعب السنن والآثار حفظًا؛ إِن تكلم فِي التفسير فَهُوَ حامل رايته، وإن أفتى فِي الفقه فَهُوَ مدرك غايته، أَوْ ذاكر بالحَدِيث فَهُوَ صاحب علمه، ذو روايته، أَوْ حاضر بالنِّحَل والملل لَمْ يُرَ أوسع مِن نحلته، ولا أرفع مِن درايته، برز فِي كُل فن عَلَى أبناء جنسه!".
وقال الذهبي: "ما رأت عيني مثله, ولا رأى هو مثل نفسه".
وقال ابن دقيق العيد: "لما اجتمعتُ بابن تيمية رأيتُ رجلاً العلوم كلها بيْن عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد!".
وقال أبو البقاء السبكي: "والله ما يُبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى؛ فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به".
قال ابن القيم: "علِم الله، ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع كل ما كان فيه مِن ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه مِن الحبس والتهديد والإرهاق، وهو -مع ذلك- مِن أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرِّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه, وقد شاهدتُ مِن قوته، وكلامه، وإقدامه، وكتابه أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم مِن التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر مِن قوته في الحرب أمرًا عظيمًا.
ورأيته في المنام؛ وكأني ذكرتُ له شيئًا مِن أعمال القلب؛ وأخذت في تعظيمه ومنفعته، فقال: "أما أنا، فطريقتي: الفرح بالله، والسرور به", أو نحو هذا مِن العبارة، وهكذا كانت حاله في الحياة، يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله, وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقتْ بنا الأرض؛ أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة. فسبحان مَن أشهد عباده جنته قبْل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم مِن روحها ونسيمها وطيبها، ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها".
وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: "وددتُ أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه! وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قط، وكان يدعو لهم!".
وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له؛ فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام مِن فوره إلى بيت أهله فعزاهم, وقال: "إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه -ونحو هذا مِن الكلام- فسُرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله، ورضي عنه.
وكان يقول كثيرًا: "ما لي شيء ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء", وكان إذا أُثْني عليه في وجهه، يقول: "والله, إني إلى الآن أُجدِّدُ إسلامي، وما أسلمتُ بعد إسلامًا جيدًا!".
يتبع -إن شاء الله-.