الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 09 فبراير 2017 - 12 جمادى الأولى 1438هـ

الحياة الطيبة!

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكلُّ منّا يبحث عن الحياة الطيبة، وكلُّ له وجهته في ذلك، و-للأسف- منا مَن يمّم وجهه قِبَل المشرق والمغرب يبحث عنها، ونسي أنهم أنفسهم يبحثون عنها أيضًا؛ فما وجدوها فيما وصلوا إليه مِن تمدُّن وترف مع نسيانهم لربهم -تعالى-! ونسي أيضًا ما بيديه مِن أسباب الحياة الطيبة، كما قال القائل:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما                     والـماء فـوق ظـهـورها محمول

- نعم، الطريق إلى الحياة الطيبة بيْن أيدينا -والحمد لله-، ممهدة أرضه، مبينة أسبابه في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24).

قال الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه: "( اسْتَجِيبُوا): أجيبوا. (لِمَا يُحْيِيكُمْ): لما يصلحكم".

وما يُصلحنا هو الإيمان والعمل الصالح، كما قال الله -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97).

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله -في تفسيره: "هذا وعد مِن الله -تعالى- لمَن عمل صالحًا، وهو العمل المتابع لكتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مِن ذكر وأنثى مِن بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مشروع مِن عند الله - أن يحييه حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة. والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة مِن أي جهة كانت؛ فعن ابن عباس وجماعة: الرزق الحلال الطيب. وعن ابن عباس أيضًا: السعادة. وعن الحسن ومجاهد: في الجنة. وعن الضحاك: العمل بالطاعة والانشراح لها.

والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد -رحمه الله- بسنده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ) (رواه مسلم)" اهـ.

وللحياة الطيبة أسبابًا، فمنها:

1- صدق الإيمان بالله تعالى -واللجوء إليه، والإقبال عليه بحيث يجعله همه: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، هَمَّ آخِرَتِهِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ) (رواه ابن ماجه، وحسنها لألباني).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وإن أصبح وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمَّل الله -سبحانه- حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما همه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته!

وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه؛ فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم؛ فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، فكل مَن أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته! قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف:36)، قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: "لا تأتون بمثل مشهور  للعرب إلا جئتُكم به مِن القرآن، فقال له قائل: فأين في القرآن: أعطِ أخاك ثمرة؛ فإن لم يقبل فأعطه جمرة!" قال: في قوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)" (الفوائد).

وقال -رحمه الله-: "في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكّنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيرانُ حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطى الدنيا وما فيها لا تسد تلك الفاقة أبدًا" (مدارج السالكين).

2- الأخذ بالأسباب في تحصيل الرزق الحلال وتحقيق الكفاف: فلا بد لأحدنا مِن معاشٍ طالما أن فيه حياة، قال الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15)، وقال الله -تعالى-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10).

وهو مِن العبادة التي يؤجر عليها الإنسان، وخروجه فيه كخروجه للجهاد إذا كان سعيه في مرضاة الله؛ لينفق نفقة واجبة أو مستحبة، عن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- -قال: مرَّ على النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلٌ، فرأى أصحَابُ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ جَلَدِه ونشاطِهِ، فقالوا: يا رسولَ الله! لوْ كانَ هذا في سبيلِ الله؟ فقال رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إنْ كانَ خرج يَسْعى على وَلَدِه صغارًا فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرجَ يسْعى على أبوينِ شَيْخَينِ كبيرَينِ فهو في سبيلِ الله، وإنْ كان خَرج يَسْعى على نفْسِه يَعَفُّها فهو في سبيلِ الله، وإنْ كان خرجَ يَسْعى رياءً ومُفاخَرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).

وفي المقابل يجعل تضييع مَن يعول مِن الذنوب العظيمة، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). أي: كفاه ذنبًا أن يضيع مَن يقوت بإهمالهم، وترك النفقة عليهم؛ ولأن النفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه بالكفاف، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا) (متفق عليه)، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ" (رواه البخاري).

- وعن سالم مولى زيد بن صوحان قال: "كنتُ مع مولاي زيد بن صوحان في السوق؛ فمر علينا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- وقد اشترى وسقًا مِن طعام، فقال له زيد: يا أبا عبد الله تفعل هذا، وأنت صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فقال: إن النفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت، وتفرغت للعبادة، وآيس منها الوسواس" (حلية الأولياء 1/ 207).

- ثم إذا حصَّل رزقه، وفرغ مِن حاجياته نصب لعبادة ربه -تعالى-، كما قال الله -تعالى-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:7-8).

قال العلامة السعدي -رحمه الله-: "أي: إذا تفرغتَ مِن أشغالك، ولم يبقَ في قلبك ما يعوقه؛ فاجتهد في العبادة والدعاء (وَإِلَى رَبِّكَ) وحده (فَارْغَبْ) أي: أعظم الرغبة في إجابة دعائك وقبول عبادتك، ولا تكن ممن إذا فرغوا وتفرغوا، لعبوا وأعرضوا عن ربهم، وعن ذكره؛ فتكون مِن الخاسرين" اهـ.

- وألا يتعلق قلبه بالمال؛ وإنما يجعله في يده، وهذا مِن الزهد؛ ولئلا يؤدي إلى الشح والبخل، وأن ينشغل بشكر النعمة؛ فما مِن ذي نعمة إلا وهو مسئول عنها، أدى شكرها أم لا حتى يُسأل عن الماء البارد! قال الله -تعالى-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر:8).

- وأن تكون نفقته اعتدالاً لا إسرافًا أو اختيالاً، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا مَا لم يُخالطْ إِسْرَافٌ وَلَا مَخِيلَةٌ) (رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني). وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كل ما شئتَ، والبس ما شئتَ، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة".

3- ومِن أسباب الحياة الطيبة: الصبر على أقدار الله المؤلمة وجوبًا، والرضا عن الله فيها استحبابًا، والشكر لله عليها إحسانًا؛ فإنه باب الله الأعظم الذي مَن ولجه عاش راضيًا عن الله -تعالى-، مطمئنًا به راجيًا خائفًا؛ لا يخشى إلا الله -تعالى-.

عن صهيب -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) (رواه مسلم).  

4- كثرة ذكر الله -تعالى-: ومِن ذكر الله -تعالى-: "ذكر النعم"، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (الأحزاب:41-42)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الأحزاب:9).

- ومِن ذكر الله: "كثرة تلاوة القرآن بتدبر وحضور قلب": قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر:29)، وقال: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (آل عمران:113)، وقال: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:4)، وقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء:79). (فَتَهَجَّدْ بِهِ): أي بالقرآن.

5- الإحسان للناس: قال الله -تعالى-: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195)، وقال -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة:83).

ومِن ثمرات الإحسان العظيمة: السلامة مِن الناس، وتفرغ القلب والبال لله -تعالى-.

- وأن يعاملهم بما يحب أن يعاملوه به دون انتظار المثل منهم، ويقبل اليسير مِن أخلاقهم ومعاملتهم.

وبعد، فهذه بعض أسباب الحياة الطيبة وأساسها؛ إن سلكها العبد رضي قلبه، وطاب عيشه، وكان في جنة الدنيا قبْل جنة الآخرة.

رزقنا الله وإياكم الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.