الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 10 ديسمبر 2025 - 19 جمادى الثانية 1447هـ

مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (18) تابع القراءات الشاذة ومدى حجيتها في الأحكام الفقهية

كتبه/ ياسر محمد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد ذكرنا فيما سبق أن معنى الشذوذ عند ابن جرير -رحمه الله- هو مخالفة الإجماع، وهو عنده على ضربين، وقد تحدثنا عن الأول، وفي هذا المقال نفرد الحديث عن الثاني مع ذكر الكلام عن مصاحف القراءات الشاذة، وهذا كله مقدمة ما زلنا فيها قبل الشروع في الكلام عن حجية القراءات الشاذة في الأحكام الفقهية.

فنقول -وبالله العون-: الضابط الثاني المحكوم به على نوع القراءة عند الإمام ابن جرير -رحمه الله-؛ ألا وهو: ما انفرد به بعض القراء عن باقي جمهورهم، وهذا النوع يدخل فيه القراءات الشاذة المتواترة، ومن هذا ما قرأه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمر -رضي الله عنه-، وكذا الخليل ابن أحمد عن ابن كثير من لفظ (غَيْرِ) في سورة الفاتحة بنصب حرف (غَيْرَ) (مختصر ابن خالويه)، مع أنها في مصحف عثمان بكسر الراء (غَيْرِ).

حيث قال ابن جرير: "وإن كنت أكره القراءة بالكسر لشذوذها»، ومن هنا نعلم أن ابن جرير لا يقبل القراءة التي شذت، وإن كان لها وجه في العربية ومنها أيضًا قراءة ابن عامر وابن كثير (وَقُتِّلُوا) بتشديد التاء في قوله: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ) (آل عمران: 195).

حيث استجاز ابن جرير قراءة (وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا) وهي قراءة نافع وأبو عمرو وعاصم (طيبة النشر) بالتخفيف، وقراءة من قرأ بتقديم (وَقُتِلُوا) على (وَقَاتَلُوا) وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف، وشذذ ما عدا هاتين القراءتين، ولا ننسى الضابط الذي يحكم به ابن جرير على صحة قراءة ما، وهو ما انفرد به بعض القراء عن باقي جمهورهم.

قلتُ: ولكن هذا الضابط يرده ما ثبت من القراءة بأحرف انفرد بها بعض القراء عن باقي جمهورهم، وهي متواترة لاشتمالها على أركان القراءة الصحيحة، ومنها ما انفرد به ابن كثير عن باقي القراء حيث قرأ حرف: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ) (البقرة: 37)، حيث قرأ ابن كثير -رحمه الله-: (فَتَلَقَّى آدَمَ) بالنصب في (آدَمَ) على أنه مفعول، ورفع (كَلِمَات) على أنها فاعل، وكأن الكلمات هي التي تلقت (آدَمَ) -عليه السلام-، وقرأ باقي القراء برفع (آدَمُ) ونصب (كَلِمَاتٍ) على أن (آدَمَ) هو الفاعل والكلمات مفعول به منصوب بالكسرة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وكذلك ما انفرد به حفص بن سليمان الراوي عن عاصم ابن أبي النجود بقراءة حرف (لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخُسَفَ بِنَا)، فقد قرأ حفص (لَخَسَفَ بِنَا) على أن الفعل مبني للمعلوم وانفرد عن باقي القراء الذين قرؤوا (لَخُسَفَ بِنَا) على على صيغة ما لم يسمَّ فاعله.

والأمثلة كثيرة -ولله الحمد-، ولكن نكتفي بذلك إشارة إلى مخالفة ابن جرير -رحمه الله-، ثم ننقل كلام الدكتور عبد العلي المسئول صاحب رسائل جامعية في القراءات الشاذة وضوابطها حيث قال: "وربما في عصر ابن جرير لم تتنوع القراءات إلى متواتر وشاذ، وليس كما يتجاسر البعض على الإمام ابن جرير، بدعوى طعنه في المتواتر" (ينظر كتاب: دفاع عن القراءات المتواترة في مواجهة الطبري المفسر - الدكتور لبيب السعيد).

وقد تناسى هؤلاء الطاعنين على ابن جرير أن لكل زمان مصطلحات: كما ألَّف ابن مجاهد كتابه (السبعة في القراءات) وجمع فيه ما كان مجمعا عليه آنئذ، وليس ما شذ وانفرد به أحد القراء. (ينظر: السبعة في القراءات لابن مجاهد).

وبتأليفه -رحمه الله كتابه- (السبعة) فهم الناس أن ما عداها شاذ؛ ذلك ما حكاه أبو الفتح ابن جني في مقدمة كتابه (المحتسب) حيث ذكر أن القراءات الموجودة في عصره ضربان:

- الأول: ما اجتمع عليه أكثر قراء الأمصار، وهو ما ألف فيه أبو بكر أحمد بن مجاهد -رحمه الله- في كتابه (القراءات السبعة).

والآخر: ما تعدى ذلك وأطلق عليه أهل زماننا شاذًّا بمعنى خارج عن السبعة المتقدم ذكرها (المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات).

ومما يقوي هذا القول: أن ابن مجاهد ألَّف إلى جانب كتابه كتابًا في الشواذ. (ينظر: تاريخ القرآن للدكتور عبد الصبور شاهين). وكأنه يقصد بهذا التأليف إدخال القراءات التي لم يدخلها في كتابه الأول.

وخلاصة هذه الضوابط: أن اللغويين والنحاة والفقهاء والقراء متفقون على كون الشاذ مخالف، فعند النحاة مخالفة القياس، وعند الفقهاء مخالفة المشهور، وعند القراء مخالفة الإجماع. (انتهى بتصرف من كلام الدكتور عبد العلي المسئول، رسائل جامعية: القراءات الشاذة ضوابطها والاحتجاج بها في الفقه والعربية).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.