كتبه/ محمد صادق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
حين يُقيل الداعية نفسه دون أن يدري:
ليست الإقالة الصامتة طريقة مؤسساتية فحسب، بل هي داءٌ يتسلَّل أحيانًا إلى صفوف الدعاة والمصلحين.
يحدث حين لا يُقصي أحدٌ الداعية من الميدان، بل هو الذي يُقصي نفسه بهدوء.
يطفئ همَّه بيده، ثم يُقنع نفسه أنه "فقط يستريح قليلًا".
بداية الانسحاب:
الإقالة الصامتة لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل.. حين يضعف الارتباط بالله في قلب الداعية،
ويتحول العمل من عبادةٍ إلى عادة، ومن رسالةٍ إلى دورٍ اجتماعي.
يبدأ الانسحاب حين يفقد الداعية لذّة البلاغ، وحين يُصاب بفتورٍ مستتر خلف ألف عذر: (الناس تغيَّرت - الساحة فوضى - المرحلة صعبة - لا أحد يقدِّر الجهد - ...)؛ كلها كلمات مريحة تُسكّت الضمير، لكنها في حقيقتها استقالة مغلَّفة بالتبرير.
ملامح الإقالة الصامتة:
- أن يُقلّص الداعية جهده إلى الحدّ الأدنى، دون أن يتوقف تمامًا؛ فيكتفي بالحدّ الذي يُبقي صورته لا أثره!
- أن يفقد غيرته على المنكر، ولا يتألم لانطفاء النور من حوله.
- أن يعتاد غيابَه عن الميادين فلا يشعر بالوحشة.
- أن يُصبح صمته عادة، وكأن الدعوة كانت مرحلةً وانتهت.
في كل هذه المظاهر، هو لا يزال بين الناس، لكن رسالته داخله قد أُحيلت إلى التقاعد.
الجذر التربوي للمشكلة:
الإقالة الصامتة ليست ضعفًا تنظيميًّا، بل خللًا تربويًّا؛ تبدأ حين تنفصل الهمة عن النية، وحين تتحول الدعوة إلى "مشروعٍ بشري" بدلًا من أن تبقى "عبادة ربانية".
الداعية حين لا يجدد صلته بالله، يعمل بطاقة العادة لا حرارة الرسالة؛ فإذا نفدت الطاقة انطفأ، وإذا انطفأ القلب لم تُجدِ المهارات ولا الألقاب.
ولهذا قال بعض السلف: "من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس".
فما خسر الداعية مكانته إلا حين خسر علاقته بربه.
طريق العودة:
الإقالة الصامتة لا تُعالج بخططٍ جديدة، بل بإحياء القلب القديم.
العودة ليست إلى المنبر، بل إلى المحراب.
ليس إلى العمل، بل إلى المقصد.
- جدد نيتك: هل أنت في الميدان لله أم ماذا؟
- راجع أثرك: هل الناس يزدادون بالله قربًا من كلماتك؟ أم أنت تزداد بعدًا من نفسك؟
- واجه ضعفك لا تهرب منه، فالهروب من التعب الدعوي هو التعب الأكبر.
- الزم الصحبة الصالحة التي تذكّرك بلماذا بدأت، لا التي تبرِّر لك التوقف.
ختامًا:
يا من بدأ الدعوة بحلمٍ كبيرٍ وهمٍّ صادق: إياك أن تُقيل نفسك من خدمة هذا الدين دون أن تشعر.
قد تُقصى من لجنةٍ أو تُنسى من منصب، لكن الخطر أن تُقصى من مقام البلاغ عن الله.
الإقالة الصامتة لا يصدر فيها قرارٌ من إدارة، بل من قلبٍ لم يعُد يرى في الدعوة شرفًا؛ فاحذر أن تُصبح دعوتك "عملًا إداريًّا" بعد أن كانت "نبضًا ربانيًّا!".