الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 21 يناير 2007 - 2 محرم 1428هـ

شهر الله المحرم

كتبه/ محمد رجب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زال خير الله -تعالى- يُحمل إلى العبد حملاً، ويُساق إليه سوقـًا، فليس مِن زمان خيرٍ إلا وهو رسول بيْن يدي زمن خير آخر، فإذا انقضى يوم وراح، أعقبه يوم، بل أيام، يساق الخير الذي فيها للعباد، جودًا ورحمة مِن الله -تعالى- بهم، فما أجودَ الله -تعالى-! وما أجزل عطاياه! وما أكثر خيره!

فها هو زمان ذي الحجة قد مضى ليؤذن بانصراف العام، حاكيًا وشاكيًا وحاديًا؛ حاكيًا ما فيه مِن الأعمال، وما شغل لحظاتِه مِن كسب الناس وسعي المكلفين.

وشاكيًا ما وجد مِن سوء صحبة العباد، فما قاموا بحسن صحبته، وما وفَّوه ضيافته.

وحاديًا أهل الدين، مناديًا عليهم لينذر برحيله رحيل الخيرات؛ إذ يوشك بانقضائه أن تنقضي مواسم خيرٍ تتابعت؛ لم يبقَ منها إلا أيام شهر الله المحرَّم، فقد مضى شعبان ومِن بعده رمضان، ولم تزل الخيرات تفوت حتى مضت خير الأيام، أيام العشر، وها هو ذو الحجة قد مرَّ مِن بين أيدي العباد وفات؛ فكيف لم يجدوا حداءه؟! كيف لم يسمعوا نداءه؟! فما بقي مِن ذلك إلا صداه، يتعجَّل في أهل الدين قصودَهم وسعيَهم لاستدراك ما فاتهم مِن الخيرات فيما استقبلوه مِن الأوقات، يحذرهم طول انقطاع عن تلك المواسم بعد شهر الله المحرم، فهلا كان التشمير!

هلا كان الاستدراك!

يمضي ذو الحجة بعامِه ليأتي عام جديد، يستدعي مِن العبد نظرًا في سنة الله -تعالى- الجارية في تعاقب الأزمان وتوارث الأحيان "ظروف السعي، ودواوين الكسب"؛ لتدله على عموم جريان تلك السُّنة في خلق الله -تعالى-، فليست قاصرة على أزمان شغلتها أعمال وأحوال، بل مقصودها الأصلي هو العمال، ليستخلص العبد منها مشهدًا وعبرة؛ مشهد الإحياء والإماتة، ليتعبد لله -تعالى- بإثبات ذلك له -سبحانه-، فيشهد قلبه ربه وقد تفرد بذلك، يحيي ويميت، فيتعبد القلب لله -تعالى- باسمه المحيي والمميت، ليتحقق فيه توحيد ربه بذلك وفيه، فيدله تعاقب الأزمان على ذلك (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (المؤمنون:80)، فيعقل عن ربه سننَه وأمرَه، ينبه قلبَه أفولُ الأيام.

كم راحت أعمال مع تلك الأيام، فهل تراها تعود؟!

كم انقضت آجال بانقضائها، فهل ترى أحدًا يرجِعها؟!

مضت أيام وأفلت أزمان؛ وأفل معها أعمال وآجال، فالله أماتها، وعقب ذلك أيام وأزمان، تأتي لتشغل بأعمال وآجال، فالله يحييها، فالله -تعالى- أوجدها، أخرج حيًّا مِن ميت، وأخرج ميتًا مِن حي، فالله فعل ذلك (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:27)، فلا إله غيره ولا رب سواه؛ ليجد العبد في ذكر صباحه ومسائه بذلك حلاوةً، لم يكن يتذوقها مِن قبل: فلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

أما العبرة: فالاستخلاف، فأيامه يخلف بعضها بعضًا، كذلك ما فيها مِن الأعمال، بل ما فيها من العُمَّال، يشهد غايةَ تقدير الله -تعالى- بتلك السنة، سنة الاستخلاف؛ يشهد ذلك في قوله عزَّ ذكره: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس:14).

ها هو زمان العشر قد رحل بخيره ليسوق الله إلينا خيرًا آخر، في زمان آخر، بلا سبب ولا طلب.

فدونك شهر الله المحرم، زمان شريف، وشهر حرام، وداعية إلى الطاعات، وحادي القلوب إلى مزيد السعي، وتحصيل الكسب، فلا يفوتك فيه ما مِن قبل فات، لا يضيع منه ما ضاع مِن حقوق سالف الأوقات.

قد سيق إليك ذلك الزمان بصنوف مِن الخير، وأنواع مِن التوفيق، بل فيه يوم مِن أيام الله -تعالى-، يوم عاشوراء، يكفِّر السنة الماضية، كما بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وحق ذلك في القلب شهودٌ يحمل العبد على الانتفاع بما في ذلك الزمان، والقيام بوظائف تلك الأحيان، هذا وقد نبهتُ مِن قبل -في الكلام على فضل الأيام العشر- على سنة التفاضل في خلق الله، وما ينبغي أن يقوم في القلب مِن المعاني عند النظر فيها، فاستصحبه في كل ما تجدد عليك مِن مواسم الخير وأزمنة الطاعات، عساك إن فاتك حضورُ القلب بعضَ ذلك فيما فات، أن تجده في ما استقبلك من الأوقات، والله المستعان.

فمن مشاهد ما يأتيك مِن أيام الخير: مشهد يقوم على ما تنبه القلب إليه مِن سنة التعاقب وغاية الاستخلاف؛ ألا وهو: مشهد الإمهال، إمهال الله -تعالى- للعبد، فما زال له في الأزمان أجل، قد أمدَّ الله -تعالى- له في عمره حتى عاش ذلك التعاقب، ورأى هذا الاستخلاف، فما أحسن صنع الله بالعبد إذ أتى به إلى تلك الأيام، وغيره انقطع به سعيه، وانقضى في الأزمان أجله، ما زال العبد مساقـًا بإبقاء الله -تعالى- له، وإمهاله إياه، ما زال يتقلب في مراحل الحياة، متعرضًا لرحمات الله -تعالى- فيها، قد أمكنه ربه مِن سعيٍ حرمَه غيره، وأمتعه برزق منعه سواه، يوم يأتيه بما فيه مِن الخيرات، كان يمكن ألا يلاقيه أبدا، كان يمكن أن يأتي ذلك اليوم على أهل الدنيا، والعبد تحت التراب مقبور، وعن سعيه مقطوع مأسور، فلا خيره حصد، ولا رحمته وجد، فكم مِن ديوان طواه على صاحبه الموت، غير أن رحمة الله -تعالى- تداركته بسابق قدره فيما قضى مِن الآجال؛ إنه الآن مِن أهل الدنيا، يلقى ذلك اليوم ويلقاه يومه، لم يمنعه سابق قضاء الله -تعالى- عنه.

فما أحسن ذلك القضاء!

وما أسعد العبد بيوم تبين فيه نعمة الإمهال! كاد أن يفوته ذلك، كما فات غيره.

فالحمد لله ربنا ذي الجلال على ذلك الإمهال، والمد في الآجال.

ومِن هذا المشهد يتطلع القلب إلى مشهد آخر، وهو: "مشهد الانتهاز"؛ فلعله ألا يلقى يومه ذاك ثانية، فليحسنْ الوداع، فساعات يومه ظروف سعيه، فحقه الآن أن يكون شحيحًا بها، ربما لا تأتيه، بل ذلك أقرب، فهو يرى انقضاء الآجال يصيب منه جوارًا وشعارًا، فما زال الموت يقارب، يوشك أن يسدد، فحاله الآن الترقب والقلق، فما الذي عن انتهاز ساعاته يلهيه؟! وأيشيء دونه يغريه؟! ومظروف أيامه زادُه وعدتُه، فهل تراه الآن إلا حريصًا عليها، ضنينًا بها، يكاد ألا يفوته لحظات منها.

ومشهد آخر: "مشهد الشكر والامتنان"؛ شكر لله -تعالى- على جميل فضله، وإثبات له بالمن، فله -تعالى- الفضل والمن، فهو أهل ذلك -سبحانه-، فكل خير فمن جميل عطائه، فهو الذي أخرج عبده مِن الظلمات إلى النور، وامتن عليه بذلك، ثم لم يزل -تعالى- متفضلاً عليه بالنعم، ينقيه ويرقيه، يطهره ويزكيه، كما قال -جلَّ ذكره-: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور:21)، فذلك محض فضله، فالعبد يشهد أيام الخير صحافًا يملؤها ماء مبارك، ليطهُر به قلبه، وتزكو به نفسه، ويثبت به قدمه، ولولا ذلك لهلك؛ لولا فضله -سبحانه- لأتلفته آفاته، وأثخنته عثراته، لكن الله سلَّم.

فالقلب الآن حال لقائه بتلك الأزمان لمتوجه بالشكر لصاحب الفضل، لمثبت المن لأهله -سبحانه-، يعلم ضرورته إليه، وعظيم افتقاره له، لا شيء مِن عند نفسه إلا الهلاك والتلف، يشهد نفسه عاريًا إلا مِن فضل ربه، جائعًا إلا مِن جود سيده، ضالاً إلا مِن هداية مولاه.

فهو في فضل ربه كأرض جُرُز أنبتها الله -تعالى- بماء سمائه، فأيام الخير مسوقة إليه سَوقَ الماء إليها، ما كان ذلك إلا بالله ورحمته، فله الحمد أولاً وآخرًا، باطنًا وظاهرًا (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (السجدة:27)، فلا إله غيره، ولا رب سواه.

ومِن المشاهد كذلك: حبُ المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ الرحمة المهداة والنعمة المسداة؛ سبب كل خير؛ وباب كل فضل، وحسنُ التعبد بما في قوله -تعالى-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128).

فانظر إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-، في فضل المحرم وعاشوراء: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ) (رواه مسلم)، فارجع البصر في كلامه المشرَّف لترى شفقة عامة ورحمة بالغة، تنال كل عبد مسلم، لتراه وقد استدرك للعبد فرائضه ببيان ما يجبرها من النوافل والقربات، ويعتاض به عن وجوه النقص في المكتوبات والواجبات حتى إنه -صلى الله عليه وسلم- بالغ في النصيحة لأمته ببيان مراتب الندب، ومنازل الفضل، فلا يبقى مِن العبد إلا تحصيل تلك الأعواض، فرحًا برسوله، شاكرًا لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، مملوء القلب بحبه، منجذبًا لطريقته وهديه، قد استشعر ما لهذا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- مِن الخير عليه والبركة، والإشفاق والرحمة.

وانظر إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) (رواه مسلم)، وارجع البصر في ذلك التعبير: (أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ)، ألا ترى في لفظه -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَى) رفعةَ مقامِه، وعلو منزلتِه، فإنه لفظ مستعار في ذلك الموضع؛ يُشعر بالإيجاب، أي بإيجاب ذلك الاحتساب، وليس كذلك، وإنما هو الوثوق فيما له عند الله -تعالى-، والطمأنينة لصدق وعده له، فأنت ترى طمعه المؤكد -صلى الله عليه وسلم- فيما عند ربه، ورجاءه الموثَّق في عطائه، وقد توسل بكل ذلك لمصلحة أمته؛ انظر كيف صار ما له عند الله -تعالى- إلى أفراد أمته، آل إليهم، بل إليك، صار نفعه إليك، فكلٌ يناله مِن ذلك الخير بحسب استجابته له -صلى الله عليه وسلم-.

أفلا تستشعر رحمته وحبه؟!

أفلا تجد رأفته ووده؟!

أوَ لا تجد تلك الخيرات التي أرشدك إليها مطايا تحملك إليه إلى متابعته؟! إلى القيام بحقه؟!

فاللهم صلِّ على محمد، وأنزله المقعد المقرب منك يوم القيامة.

وانظر إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- مخاطبًا اليهود في صوم عاشوراء: (نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ) (متفق عليه)، فإنك لتجد عزة تسري في نفسك، قد خالطتها بشاشة وسكينة؛ لمَّا جمعك مع رسول الله ضمير واحد، هو -صلى الله عليه وسلم- من ضمَّك إليه، صيَّرك معه في لفظ واحد، وكأنه اللواء، لواء استحقاق وأهلية؛ لولاية رسول كريم مِن أولي العزم، فنحن أولى بالكليم -عليه السلام-، فما أشرفَ ما أٌعطيتَ؟! وما أعزَّ ما وُليتَ؟!

ويؤكد ذلك لفظه -صلى الله عليه وسلم-: (فَصُومُوهُ أَنْتُمْ) (متفق عليه)، فذاك تشريف في قالب تكليف، فهذه الولاية لها أعباء بها تعرف، وعليها تصديق دعواها، فهي ادعاء إلا أن يقوم البرهان بالأعمال الصالحة، والقيام بوظائف الشكر، والخدمة بالطاعات، متابعة يلتحم فيها اللاحق بالسابق، فإن مات عامل لم ينقطع بموته عمله، بل يرثه في ذلك وليه، فيحمل عنه قصده وسعيه، ويستلم منه عهده وجهده.

وفي ذلك مشهد الاستبدال، فقوله: (فَصُومُوهُ أَنْتُمْ) إعلان باستبدالكم بهم، استبدال بهم، واستعمال لكم، وهي سُنة في المكلفين جارية، فهم بيْن مستعمل ومستبدل، فكل تكليف مِن الله -تعالى- فهو موضع قد استخلفك فيه، واستعملك عليه، فإن لم تقم بحق ما ولاك ربك استبدل بك، واستعمل على ذات الموضع غيرك، فلا محاباة في ذلك ولا مجاملة، فيحسُن مِن العبد بذلك التعبدُ بما قاله -جل ذكره-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54)، وفي قوله -تعالى-: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38).

ومِن المعاني كذلك في فضل شهر الله المحرم وصومه، ما نبه عليه قوله الشريف -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ)، فإنه جعل صوم المحرم إلى صوم رمضان بإزاء قيام الليل إلى الصلوات المكتوبات، فإن كان إحسان المكتوبات يعين العبد على القيام، ويلحقه بالمتهجدين، ويلزمه شعار الصالحين؛ فإن حسن القيام بحقوق رمضان يفضي إلى حسن القيام بصيام المحرم، فصار التوفيق إلى ذلك دليلاً وعلامة على التوفيق في رمضان، يشبه أن يكون علامة على القبول. وإن كان الأمر كذلك؛ تعيَّن على العبد مراعاة زمان المحرم، إذ بذلك يتعرض لدلائل القبول، ويتلبس بحال أهله، فإنما يستأنس في القبول بذلك، فلعله أن يلحق بهم، وعساه أن يثبت له وصفهم، فرجاء القبول بالتعرض لأماراته، والتلبس بأحوال أهله، والله تعالى أعلم.

وفيه معنى آخر: أنك تجد بذلك كأنما أُريدَ استقبالُ العام متصلاً بما كان في رمضان، فالعبد الآن حال استذكار لما كان فيه مِن الأعمال، ومراجعة ذلك، فيصير زمان المحرَّم عوضًا لاستدراك ما فات في رمضان، كما يكون في شأن القيام، من معالجة رعونات تكون مِن العبد في المكتوبات؛ لا يسلم للعبد علاجها إلا في مستراح القيام، فالمحرم مستراح الصيام.

وفيه معنى آخر: فإنك لا تستقبل العام بمراجعة ما فات مِن رمضان فحسب؛ بل متصلاً برمضان الآتي في ذلك العام، ترمي ببصرك إليه، تستعين بشهر المحرَّم عليه، وتتزود لأجله منه، فإن صلاة الليل عون على المكتوبات، وزاد لحسن القيام بها، ليس كسائر النوافل، بل ثمَّ أمر زائد، تُعيِّنُه تلك الأفضلية التي بينها ذلك الحديث الشريف، فعونها أفضل، وزادها أوفر، وهكذا صوم المحرم، عونه أفضل، وزاده أوفر، فحق ذلك أن يستدعي في القلب تأهبًا لإحسان صحبة المحرم؛ عساه أن يتزود بخيره، ويستعين بما فيه للقيام بحقوق رمضان، ليرى شهر الله المحرم في شهور عامه كساعات الليل في يومه، أشد وطئًا وأقوم قيلاً؛ غير أنها في شأن الصيام.

ومِن المعاني كذلك ما قاله -صلى الله عليه وسلم-: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ) (رواه مسلم)، مخالفة لليهود إذ كانوا يصومون العاشر، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يزل حريصًا على استقلالية أمته، فيسد كل ذريعة يمكن أن يتخفى مِن ورائها انحلال ذلك، أو يتسلل تميع فيه، فلا مشابهة أو تقارب، بل فصل تام، فلهم دينهم ولنا دين، فالأمر بمخالفة أهل الكتاب في سنة جزئية كصوم عاشوراء أغلق أبواب شر الانزلاق إلى تصور خاطئ قد يقع فيه بعض الناس، فيتوهمون بيننا وبينهم اللقاء أو التقارب، بل ما كان صوم عاشوراء إلا بأحقيتنا بموسى منهم، بل ما تأكد لنا إلا بأمر رسولنا، بل زادنا فيه ما لم يعد معه تشبه أو التقاء؛ ليقوم في القلب بذلك شاهد عقد الولاء والبراء، ليتحقق في القلب بالتدبر في عاشوراء ولاؤه لأهل الإسلام لأهل الدين والملة مِن لدن آدم إلى قيام الساعة؛ أبانَ ذلك ولايتُه لواحد مِن صالحيهم موسى -عليه السلام-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)، وليتأكد في القلب براءته مِن أهل الكفر، بل مِن أفعالهم وسائر شأنهم، ليتخلص القلب مِن كل ما خالف دين الصدق ، وملة الحق ، فلا لقاء أو مشابهة ؛ فإنه من تشبه بقوم فهو منهم.

ومِن المعاني كذلك ما في جوابه -صلى الله عليه وسلم- عن صيام عاشوراء: (يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) مِن التنبيه عن حال العبد مِن التقصير الذي هو أهله، فالأصل فيه الذنب والعصيان، وخلاف ذلك خاص نادر، فلا يقوم عليه حكم، ولا يصح معه عموم، فغاية تلك الطاعة تكفير السيئات، مغفرة لآثار النقائص والمعايب، والتفريط والتقصير الذي جُبلت عليه النفوس؛ لأنها عظيمة الظلم لها ولغيرها؛ فهي ظلومة، وهي شديدة الجهل بما لها وما لغيرها، فهي جهولة، فكان الخطأ لائقًا بها، بل لازمًا لها، فغايتها مِن تلك الطاعة تكفير السيئات، فصوم عاشوراء بذلك كالصلوات الخمس، والجمعات وصوم رمضان، كل ذلك مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر، فلا وجه لمن قال بأن الحديث سكت عمن لم يقترف المعاصي، فليت شعري مِن ذاك؟! فالأصل في العبد التقصير والزلل.

وبذلك يظهر أن تكفير عاشوراء مشروط باجتناب الكبائر، وهذا قول جمهور العلماء، إلحاقـًا بما للصلوات وغيرها، بل هو مِن باب الأولي؛ إذ إن صيام رمضان أفضل مِن صوم عاشوراء بالنص والإجماع، ومع هذا فهو مشروط في تكفيره باجتناب الكبائر، فعاشوراء أولى بهذا الشرط، فكأن قوة هذه الطاعة معطلة إلا بذلك الشرط.

وفيه كذلك أن قوة تكفير السيئات كمية قابلة للزيادة والنقصان، شأنها شأن الصلاة؛ لا يُكتب للعبد إلا ما عقل منها، فلربما لا يكتب له مِن صلاته إلا عشرها، وبقدر ذلك تكون قوة الآثار؛ فقوة أثر تكفير السيئات في صوم عاشوراء بحسب ما كان مِن إحسانه والوفاء بحقه، يتم بتمامه، ويعدم لعدمه، وينقص بنقصانه؛ فلا تكاد تجد مَن يسلَم له صومه تامًّا، ليجد أثره تامًّا، وليت شعري مَن يكون هذا؟!

ومِن ذلك تعلم أنه لا إشكال مِن تداخل المكفرات، فلا يقال: قد كفرت الصلواتُ السيئاتِ، فأين أثر الجمعات؟! أو صوم عرفة؟! أو عاشوراء؟! فإنه ما مِن مكفر مِن هذه الأعمال إلا وقوته بإزاء القيام بإحسانه ورعاية حقوقه، باطنًا وظاهرًا، والنقص يعني ضعفًا في تلك القوة، فلا يستوفي عملُه سيئاته، بل يبقى منها ما يعتضد ببقايا فاتت أعمالاً أخرى مِن المكفرات حتى يجتمع على العبد الكثير مِن العصيان متوهمًا ذهاب ذلك ومحوه.

لذلك كان مِن رحمة الله -تعالى- أن جعل تلك المكفرات يستدرك بعضها بعضًا، مستغرقةً مراحل الزمان، فالصلوات الخمس لساعات يومه حتى إذا ما اجتمع عليه بقايا ذنبه أتته أيامه بالجمعات ثم شهوره برمضانات، ثم لا تزال الأعمال تتعاضد ويقوي بعضها بعضًا، ولعله أن يوفق إلى رأس ذلك مِن الحج المبرور، فيرجع مِن ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ فلا إشكال في ذلك -والحمد لله-.

أما في حال استيفاء العمل الذنبَ بحيث لا يكون منه ما يكفره العمل التالي فذلك إن وجد فهو نادر خاص، لا يصلح للتعميم، ويكون أثر التكفير في حقه رفعة في درجته وعلوًّا في منزلته، أو إعانة على دفع أسباب الذنوب والسيئات فيما يُستقبل مِن الزمان، وعليه قوله -صلى الله عليه وسلم- في صيام عرفة: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ) (رواه مسلم)، والله تعالى أعلم.

فهذه مشاهد في تلك الأيام كان مدادها عطاءً، وحروف كلماتها نداءً، تنادي على قلوب أهل الدين عسى أن تكون لسعيهم حداءً.

فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصرِّف قلوبنا على مرضاتك وطاعتك، والحمد لله رب العالمين.

وصلِّ اللهم وسلم على محمد، وآله وصحبه أجمعين.