الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 23 سبتمبر 2010 - 14 شوال 1431هـ

أمير المرابطين

صاحب المغرب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين

كتبه/ محمد سرحان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أمير المسلمين السلطان أبو يعقوب يوسف بن تاشفين اللمتوني البربري الملثم، أمير المرابطين.

قال الذهبي -رحمه الله- في السير: "كان ابن تاشفين كثير العفو مقرِّبًا للعلماء، وكان أسمر نحيفًا، خفيف اللحية، دقيق الصوت، سائسًا حازقًا، يخطب لخليفة العراق، وهو وجيشه ملازمون للثام الضيق، وفيهم شجاعة وعتو وعسف، جاءته الخلع من المستظهر، ملك بضعًا وثلاثين سنة" اهـ باختصار.

يوسف المغرب الذي لم يوفَ حقه، الذي خُلق للزعامة والفتح، وطـَّد سلطانه في المغرب الأقصى، ووحد المغرب كله تحت سلطة مركزية، وتجلت مواهبه وعزيمته القوية وعلو همته وشهامته وشغفه بالفتح لنشر الإسلام منذ استلامه زمام السلطة؛ حيث قاد الحروب بنفسه بفطنة، وكان صوامًا قوامًا، زاهدًا متقشفًا، لم يكن يأكل سوى خبز الشعير ولحم الإبل، وشرابه لبن النوق.

قال الذهبي في السير "14/228": "وأول ظهور الملثمين مع أبي بكر بن عمر اللمتوني، فاستولى على البلاد من تلمسان إلى طرف الدنيا الغربي، واستناب ابن تاشفين، فطلع بطلاً شجاعًا شهمًا عادلاً مهيبًا؛ فاختط مراكش في سنـ465ـة، واشترى أرضًا بماله الذي خرج به من صحراء السودان".

وعندما عاد أبو بكر تلقاه يوسف بالهدايا الثمينة، فعرف أن الأمور استقرت، فتنازل له عن الملك، وقال له: "أنت أخي وابن عمي، ولم أر من يقوم بأمر المغرب غيرك، ولا أحق به منك، وأنا لا غناء لي عن الصحراء، وما جئت إلا لأسلم الأمر إليك"!

وهذه الحادثة الرائعة قلما يسجل لنا التاريخ مثلها حين يتنازل فيها ملك عن الحكم للأكفأ والأفضل والأصلح والأمهر.

كوَّن ابن تاشفين -رحمه الله- جيشًا ضم زهاء مائة ألف مجاهد، وبلغت دولته من حدود غانا عبورًا بموريتانيا حتى البحر المتوسط، ومن الأطلسي غربًا إلى ولاية قرطاجنة "تونس" شرقًا.

بطل معركة "الزلاقة":

ولما توحدت كلمة ملوك النصارى على سحق دولة الإسلام بعد سقوط "طليطلة"؛ تحالف ملك قشتالة والبرتغال وملك أراجون ونافارا وحاكم برشلونة وأورجل لإخراج المسلمين من الأندلس، وساروا بجيش ضخم من جليقية وليون، واحتلوا مدينة "قورتير"، ووصلوا إلى ضواحي أشبيلية؛ فأحرقوا قراها وحقولها، وحاصروا قلعة سرقسطة التي يضع سقوطها منطقة "الأيبر" في يد النصارى، ويجعل الشواطئ الإسبانية مما يلي البحر المتوسط عرضة لغاراتهم.

وأثخن النصارى في ولاية "سرقسطة" كلها بالنار والسيف، وخشي المسلمون سقوط "سرقسطة" يومًا بعد يوم؛ فأرسل أمراء الطوائف رسالة إلى ابن تاشفين موقعة من ثلاثة عشر أميرًا مستقلاً يناشدونه الإسراع إليهم قبل وقوع الطامة.

وأرسل المعتمد بن عباد إليه: "إن كنت مؤثرًا للجهاد فهذا أوانه؛ فقد خرج الأذفونس إلى البلاد فأسرع في العبور إليه"، وأمَّت مدينة "مراكش" وفود كبيرة من الفقهاء ووفود شعبية تسأل ابن تاشفين إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرض المسلمين بالأندلس.

وكتب أبو بكر وزير ابن عباد كتابًا إلى ابن تاشفين: "لقد غصت المساجد المتروكة بالقساوسة من أعداء الدين، ونشرت الصلبان فوق المنائر التي كان يُتلى فيها الأذان من قبل، وأخذت النواقيس تقرع من فوقها للقداس بعد أن كان يُدعى للصلاة".

وختم الوزير كتابه بقوله: "وإنه يعتقد أن الله قد اصطفاه -أي ابن تاشفين- لإنقاذ الإسلام".

وعبر يوسف بجيشه من "سبتة"، وصعد إلى مقدمة سفينته، ودعا: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرًا وصلاحًا للمسلمين؛ فسهِّل عليَّ جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك؛ فصعبه حتى لا أجوزه".

فسهَّل الله المركب وقرَّّب المطلب، وسجد ابن تاشفين شكرًا لله لما نزل بأرض الأندلس، ولبث أمير المرابطين بأشبيلية ثمانية أيام فقط يرتب أثناءها قواته، وكان في هذه الأيام صائمًا بالنهار، قائمًا بالليل، في تهجد وتلاوة لآيات القرآن، وأكثر من الصدقات وأعمال البر؛ فتملك قلوب الناس أكثر، وكسب قلوب جنده بالنصفة، وإيثار الحق، وإنشاء العدل.

وقرر ابن عباد تسليم حصن الجزيرة للمرابطين، وقال لابنه: "أي بني، والله لا يُسمع عني أبدًا أنني أعدت الأندلس دار كفر، ولا تركتها للنصارى؛ فتقوم عليَّ اللعنة في منابر الإسلام مثل ما قامت على غيري".

ولما خوَّفه بعض حاشيته من ابن تاشفين، وقالوا: "الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في عهد واحد".

أجابهم: "تالله إنني لأوثر أن أرعى الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعًا لملك النصارى وأن أؤدي له الجزية، إن رعي الجمال خير من رعي الخنازير".

وقال: "لأن يرعى أولادنا جمال الملثمين أحب إليهم من أن يرعوا خنازير الفرنج".

وتحالف عُبَّاد الصليب وملوكهم لحرب المسلمين، وعمل الباباوات دورًا عظيمًا في الحث على ذلك، وكتب "ألفونسو" -الذي كان يحكم "قشتالة" وجزءًا من البرتغال- إلى ملوك النصرانية في أوروبا بأنهم إن لم يتداركوه؛ فسيعبر المسلمون جبال البرانس إلى أوروبا؛ فجاءته الإمدادات من كل صوب، وبلغت عدة جيش ألفونسو مائة ألف من المشاة، وثمانين ألفًا من الفرسان، وكان عدد الجيش المسلم ثمانية وأربعين ألفًا؛ نصفهم من المرابطين، ونصفهم من الأندلسيين.

وأرسل ابن تاشفين إلى ألفونسو يخيره بين ثلاث: إما أن يعتنق الإسلام، أو يؤدي الجزية، أو القتال؛ فألقى ألفونسو كتاب ابن تاشفين، وغضب غضبًا شديدًا، وقال للرسول: "اذهب فقل لمولاك إننا سنلتقي في ساحة الحرب"، ورد بلهجة ملؤها الغضب والغيظ، والوعيد.

فأمر ابن تاشفين كاتبه ابن القصيرة أن يجيبه؛ فكتب وأجاد، فلما قرأه ابن تاشفين قال: "هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونس ألفونسو، واكتب على ظهره: "الذي سيكون ستراه"، وأرسله إليه"، فلما وقف عليه "ألفونسو" ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجل لا طاقة له به.

والتقى الجيشان في "الزلاقة"، أو "سكر إلياس" -كما تسميها النصارى- في يوم الجمعة 12 رجب سنـ479ــةهـ، وكانت الخطة تعتمد أن يحتفظ ابن تاشفين بقوة احتياطية تحتوي على أشجع الجنود تنقض في الوقت المناسب على الأعداء بعد أن يكون الإعياء قد بلغ بهم مبلغه، وثبت الجيش المرابطي -بقيادة البطل "داود بن عائشة"- مع جيش الأندلس أمام قوات النصارى، وأرسل ابن تاشفين عدة فرق لغوث "المعتمد بن عباد"، وبادر في الوقت نفسه بالزحف في حرسه الضخم من اللمتونيين والمرابطين، واستطاع بحركة بارعة أن يباغت جيش "ألفونسو" وأن يحدق به، ووكل يوسف بعض قوات جيشه بالنفوذ إلى خيام النصارى في الخلف وإحراقها؛ فتعالت النار في محلة "القشتاليين"، وارتد ألفونسو لينقذ محلته من الهلاك، وليسترد معسكره الذي انتزعه ابن تاشفين.

وانقض ابن تاشفين بجموعه المظفرة على النصارى كالسيل وهو يهدر من فوق جواده، ويمر في ساحات المسلمين: "يا معشر المسلمين، اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رزق منكم الشهادة فله لجنة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة"، وقاتل ابن تاشفين في مقدمة صفوفه قتالاً شديدًا، وقد قُتِلت تحته أفراس ثلاثة!

وثبت المعتمد بن عباد ثباتًا رائعًا، وأصبح ألفونسو بين مطرقة ابن عباد وسندان ابن تاشفين، وحقت عليهم الهزيمة.

وهرب ألفونسو عندما حلَّ الظلام بعد إصابته بطعنة نافذة، ولم ينج من جيش النصارى مع ملكهم سوى أربعمائة أو خمسمائة فارس معظمهم جرحى، مات منهم قسم كبير فيما بعد.

وأمر ابن تاشفين برؤوس القتلى فصفت في سهل الزلاقة على شكل هرم، ثم أمر فأذن للصلاة من فوق أحدها. وانجلت الزلاقة عن يوم مشهود من أيام الإسلام، وفخر لا يقدر بثمن.

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان عن غنائم هذه المعركة: "فلما حصلت عف عنها يوسف بن تاشفين، وآثر بها ملوك الطوائف، وعرَّفهم أن مقصوده إنما كان الغزو والجهاد لا الغنائم"، ثم عاد إلى المغرب.

وجاز ابن تاشفين الأندلس مرة ثانية لصد غارات النصارى على "مرسية"، ثم عبر مرة ثالثة إلى الأندلس بعد أن حاول بعض الأمراء التحالف سرًا مع ألفونسو السادس لطرد المرابطين، فعاد بطلب من القضاة والفقهاء، وبقي في الأندلس؛ بسبب فشل ملوك الطوائف في حماية الأندلس من الأخطار الخارجية وضمها إلى ملكه، وأنقذها من انهيار محقق، وضبطها بعزم وحزم بعد فوضى وضياع.

ومن أروع ما قاله ابن تاشفين: لما فتح مدينة "فاس" خرب السور الفاصل بين عدوتها، وقال: "إنما أسوارنا سيوفنا وعدلنا".

قال الذهبي -رحمه الله-: "مات ابن تاشفين في أول سنة خمسمائة وله بضع وثمانون سنة، وتملك مدائن كبارًا بالأندلس وبالعدوة، ولو سار لتملك مصر والشام" اهـ.

وكان وهو ابن الثمانين يثب على الفرس وثبًا!

رحمه الله رحمة واسعة، وحشرنا وإياه في زمرة الصالحين.

وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك وخليلك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.