كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فرحمة الله بعبد المؤمن أوسع مما يظن، وبِره به أرحب مما يشعر، ولطفه به في السراء والضراء أعظم مما يحس به، فهو يجعل في المكروه خيراً كثيراً، ويجعل من فترة البلاء -وإن شعر الإنسان بطولها، وليست كذلك- سبباً للرفعة والعطاء والعافية، فهذا زكريا -عليه السلام- في صدره الحاجة إلى الولد منذ قديم، وتهيج أكثر لما رأى صلاح مريم وكرامتها على ربها، وتضاعفت مع ضعفه وشيخوخته، واستشعاره الخوف على أمته أقاربه الذين لا يقومون بالدين كما ينبغي، فعند ذلك نادى ربه نداءً خفياً، مستحضراً أنه لا يشقى العبد مع الدعاء (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)(مريم:4)، فيسأل اللهَ الذرية الطيبة، الذي يقوم بأمر آل يعقوب -عليه السلام-، فهو يحمل هم أمة، ويريد وراثة النبوة فيها، فيهبه الله في حال صلاته في المحراب ما أراد.
وبالصلاة تتغير موازين العالم، وتعطى العطايا، وتُهزم الجيوش، وتتداول الأيام وتزول الدول، ويؤخذ بنواصي الخلق إلى ما يريد الرب الجليل الجميل، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وهب الله لزكريا يحيى -عليهما السلام-، ويحيى ليس له في بني إسرائيل منذ موسى نظير له، كما قال -تعالى-: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)(مريم:7)، فكم كانت سعادته عند ذلك؟ وهل كانت ستكون بهذا القرار المدهش الذي سأل معه آية وعلامة على وجود الولد رغم عقر الزوجة وكبر السن، هل ستكون بهذا القرار لو أعطى الولد كما يعطاه غالب الناس في سن الشباب، لاشك أن النعمة هنا أتم وأكمل، كما قال إبراهيم -عليه السلام-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)(إبراهيم:39).
وإذا أضفنا إلى ذلك صفات الولد الموهوب يحيى -عليه السلام-، يزداد الأمر وضوحاً في كمال النعمة، فهو يأخذ الكتاب بقوة -قوة علمية مبصرة، وقوة عملية إرادية محركة- قال -تعالى-: (وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)(مريم:12)، أي الفهم في الدين، والعمل بالعلم، والذي يظهر أنه لا يصح أن يكون مقصوداً بها النبوة؛ لأن الأنبياء رجال (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)(يوسف:109).
وكذلك آتاه الله حناناً من عنده، فالرحمة والشفقة على خلق الله إذا جعلها الله في قلب عبد، فذلك من علامات إرادة الرحمة به، فالراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكذلك من صفات يحيى أنه آتاه الله زكاة نفسه وطهارتها، وإنما تنمو النفس الإنسانية وتكبر وتعظم بالإيمان والتوحيد، والتخلص من رجس الشهوات المحرمة، وكذلك كان يحيى سيداً وحصوراً -أي يمنع نفسه الشهوات المحرمة- فهذه هي السيادة الحقيقية أن يتحكم الإنسان في نفسه لا أن تركبه نفسه وشهوته، وتحركه سواء كانت شهوة المال أو الجنس أو الجاه والرياسة، نسأل الله العافية.
وكان تقياً وباراً بوالديه، ومن وفقه الله لبر والديه فقد وفقه لصفة من صفات أنبياء الله، فالله يريد به خيراً، فليتق الله فيما بقي من أوامر الله، والعاق جبار شقي عصي لله، ولم يكن يحيى كذلك، وسلَّم الله عليه وسلَّمت عليه الملائكة، يوم وُلد، ويوم مات، ويُسلم عليه يوم يبعث حياً، نسأل الله أن يجعل علينا سلاماً يوم نموت ويوم نُبعث أحياء.
والمقصود أنه أتم للنعمة أن تمر فترة من البلاء، ثم تأتي النعمة على حاجة وفاقة وإدراك لقيمتها، فيكون ذلك أدعى للشكر (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(آل عمران:123)، وقال -تعالى-: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(الأنفال:26).
ومن رحمته -عز وجل- أن فترة البلاء لا يخليها -عز وجل- من عاقبة وفضل، وربما لا يجده الإنسان في غيره، ولربما يغسل عنه هذا الفضل الألم بالكلية، فيصل إلى مرتبة الرضا بعد مرتبة الصبر، فيجد رائحة نعيم أهل الجنة وهو في الأرض (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(البينة:8).
وفي بلاء أيوب -عليه السلام- من هذا المعنى القدر العظيم، وطول بلائه مع رضا نفسه كان من أعظم أسباب كمال النعمة عليه من ربه -عز وجل-، وكما رأينا في قصة يوسف ويعقوب -عليهما السلام-، كيف يأتي الفرج والنعم دفعة واحدة، وكان كذلك في قصة أيوب -عليه السلام-، فشفاه الله بركضة، ووهب له أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى للعابدين.
نسأل الله أن يجعلنا من العابدين، فلا يدرك هذه المعاني إلا العابدون.