الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 15 أكتوبر 2025 - 23 ربيع الثاني 1447هـ

النجاح الحق

كتبه/ جمال فتح الله عبد الهادي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمن أعظم صور النجاح: الثبات على المنهج والعمل، على إصلاح أنفسنا ومن حولنا في التعامل مع الآخرين، والتَرابُط بين المسلمين والألفة والمحبة؛ خصوصًا في هذا الجو الذي تَعِيشه مصرنا الحبيبة والمنهج المخطط لهذه البلاد وما يَدُور من حولنا في الدول المجاورة، وهذا يُذَكِّرنا بموقف الصحابة في زمن النبوة عندما أنزل الله -تعالى- سورة النور في جو ملائم لما نحن فيه من التضييق على أهل السنة والتوسعة على أهل الزيغ والبدع والضلال، ولنا في النبي -صلى الله عليه وسلم- الأسوة والقدوة الحسنة؛ لذلك نَأْخُذ العبرة والعظة من آيات القرآن في هذه السورة العظيمة، ومن آياتها: قال -تعالى-: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النور: 1).

وسورة النور من السور المدنية التي تَشْتَمِل على أحكام وآداب فَرَضَها الله -تعالى- لإقامة المجتمع الإسلامي، المجتمع المثالي النظيف الطاهر الذي يَتَمَتَّع أعضاؤه بهدوء البال، وسكون الخاطر، وسلامة الأهل والمال من الضياع، وعدم تعرض الحرمات للهتك والاستهتار؛ حيث يَكُن كل فرد فيه لأخيه الشعور بالاحترام والكرامة، فلا تُحَدِّثه نفسه بسوء، ولا يَمُر ببال أحد تدبير مكيدة للآخر، ولا إيذاؤه بأية وسيلة، فلا يَبْقَى لسوء الظن فيه مجال، ولا للنميمة موقع، لأن القلوب نظيفة من الحسد والحقد، والنفوس طاهرة من العداوة والبغضاء.

وقد اشْتَمَلت سورة النور على قوانين صارمة وآداب وتكاليف حاسمة كفيلة لإقامة مثل هذا المجتمع.

كذلك آيات في سورة الحج تُبَيِّن لنا النجاح الحق في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج: 77)؛ فهذه آية عظيمة تُحَدِّثنا عن أربعة أسباب أساسية للنجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة: ركوع، وسجود، وعبادة الله، وفعل الخيرات أنى كانت.

فقوله: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) أمر يَشْمَل كل خير، وقال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء: 114).

فالنجاح الحق هو ما ظَهَر أثره في الواقع من نفع للناس ونهوض بهم، فنجاح الطالب يَكْمُن في تفوق دراسي يُثْمِر عائدًا صالحًا للمجتمع، ونجاح المعلم في إتقان تخصصه وحسن تعليمه.

وكذلك نجاح كل موظف وعامل في براعته في عمله وأداء الواجب الموكل إليه، فالنجاح الحقيقي يكون بالعمل بطاعة الله أمرًا ونهيًا، قال -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور: 52).

والنجاح الحقيقي يوم يَأْخُذ الإنسان كتابه بيمينه يوم القيامة، ويُعْلِن في الموقف نجاحه لكل الناس، قال -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (الحاقة: 19-24).

والنجاح كل النجاح يوم يَدْخُل الإنسان الجنة ويُزَحْزَح عن النار؛ قال -تعالى-: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران: 185)، ولكن نجاح المسلم في دينه وآخرته لا يعني أبدًا التكاسل في طلب نجاحات الدنيا الصالحة الممكنة، بل إن سعي المسلم إلى نجاح الدنيا أمر أساسي وجوهري لتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض، لكن المراد هنا عدم تغليب الاهتمام بالدنيا على الاهتمام بالآخرة، وهناك نجاح من نوع آخر يُحاط بالعناية الإلهية والسعادة الأبدية، لا خوف فيه ولا ندم ولا حزن ولا كدر، هو النجاح الأخروي.

يقول تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون: 1-11)، لكن المراد هنا عدم تغليب الاهتمام بالدنيا على الاهتمام بالآخرة بسبب الانشغال بنجاح الحياة الزائلة، فما أجمل أن يكون المسلمون ناجحين في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا              وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل

والحمد لله رب العالمين.