الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 16 سبتمبر 2025 - 24 ربيع الأول 1447هـ

المستشرقون الجدد.. المراكز البحثية الأمريكية

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فتُعَدُّ المراكز البحثية المعاصرة المنتشرة في الولايات المتحدة الأمريكية حاليًّا صورة من صور الاستشراق، فهي بمثابة امتداد تاريخي للاستشراق التقليدي الذي عرفته أوروبا عبر القرون الماضية.

المراد بالاستشراق:

الاستشراق تعبير يُراد به التَّوَجُّه نحو الشرق، ويُقصَد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي تشمل حَضَارته وأديانه ولُغَاته وآدابه وثقافته وأحواله الاجتماعية. وقد سَاهَم وما زال يُسَاهِم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة وعن العالم الإسلامي خاصة، معبرًا عن الخلفية الفكرية للصراع بين الغرب والعالم الإسلامي.

بدأ الاستشراق بدافع التَّعَصُّب الصليبي في الكتابة عن الإسلام بغرض تشويهه، ثم عَمَد المستشرقون إلى تغيير أساليبهم ليظهروا بمظهر المتجردين عن التعصب، المتمسكين بالأمانة العلمية في البحث. ورغم أن الاستشراق ظاهره في الأصل أنه حركة علمية، فإن له أهدافًا دينية واستعمارية تُعَبِّر عن الخلفية الفكرية والصراع التاريخي بين الغرب والعالم الإسلامي، إلى جانب أهداف أخرى علمية واقتصادية وسياسية وثقافية، وذلك من خلال التَّعَرُّف على مواطن الضعف ومواطن القوة لدى العالم الإسلامي، والاستفادة من ذلك في إعداد ووَضْع المخططات، واقتراح الطرق والخطط والوسائل الواجب اتباعها لإخضاع العالم الإسلامي والسيطرة والهيمنة عليه.

وقد كان فشل الحملات الصليبية المتوالية على العالم الإسلامي دافعًا للمزيد من هذا الاهتمام بالاستشراق للوصول إلى تحقيق المراد منه. وقد ارتبط تيار الاستشراق بالتبشير -التنصير- في الفترات السابقة، إذ كان المستشرقون هم طلائع المبشرين، ومن يُمَهِّدون السبيل ويُهَيِّئون الظروف لنجاح المبشرين عن طريق تشكيك المسلمين في عقائدهم، وتشويه صورة الإسلام بنشر الشبهات والأكاذيب الباطلة.

وقد اتخذ الاستشراق وسائل كثيرة لتحقيق أهدافه، منها تصنيف الكتب، وإلقاء المحاضرات، وإقامة الندوات، وعقد المؤتمرات الدورية، وإصدار الدوريات والمجلات، وغير ذلك.

ومما يهتم به المستشرقون رَصْد ودراسة كل ما يظهر من حَرَكات وتوجهات في العالم الإسلامي، ومعرفة كل ما يَجِدُّ من تطور فكري أو سياسي لدى المسلمين، وتحليله وتقييمه، ووَضْع مقترحات التَّعَامُل معه، وتقديم نتائج ذلك لقادة الدول الغربية لوَضْع الخطط الخفية والعلنية للتعامل مع هذه الاتجاهات ومُوَاجَهَتها.

المراد بمراكز التفكير:

المراكز البحثية -مراكز الفكر- المنتشرة في الغرب حاليًّا، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، هي مؤسسات تتكون من خبراء يتولون وَضْع الحلول للمشكلات المحالة إليهم، ويُطْلَق عليها مراكز التفكير أو بيوت الخبرة، وهي إما مراكز ربحية تتقاضى أجرًا على جهودها وأفكارها، أو غير ربحية تابعة للدولة -قومية-، وبالتالي فموظفوها تُعَيِّنهم الدولة.

وتستعين حكومات الدول عادة بكلا النوعين الربحية وغير الربحية في الاستِرْشَاد بتوصياتها واقتراحاتها وتوجيهاتها؛ ونظرًا لاهتمام هذه المراكز البحثية المعاصرة بالشرق، فهي تُعَدُّ وجهًا جديدًا للاستشراق القديم التقليدي، أي إنها مستشرقون في ثوب جديد.

ولا يعني ذلك أن الاستشراق التقليدي قد توقف وانتهى دوره، بل ما زال كلاهما يؤدي مع الآخر دوره الهدام المغرض جنبًا إلى جنب. وقد كان الإسلام والعالم الإسلامي في صدارة الاهتمام الغربي الأوروبي طوال الحقبة الاستعمارية، والتي امتدت لأكثر من قرنين من الزمان، ولكن بعد انحسار الاستعمار الأوروبي، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، تطلعت الولايات المتحدة لشغل مواقع النفوذ التي تخلت عنها دول الاستعمار الأوروبي القديم، خاصة بريطانيا، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى هذه المراكز البحثية لتكون هي المؤدية لدور الاستشراق بالنسبة للولايات المتحدة.

وقد خصصت الحكومات الأمريكية مبالغ كبيرة لتشجيع جامعاتها على إنشاء أقسام للدراسات الشرقية عامة والإسلامية خاصة، وسرعان ما تقدم هذا الاتجاه ليتخذ أشكالًا متعددة، منها مؤسسات ومعاهد، من أشهرها مراكز البحث -مراكز الفكر والرأي-، حيث يوجد في أمريكا وحدها نحو ألفي مركز بحثي لها نفوذها الكبير، وتبلغ ميزانياتها عشرات ومئات الملايين من الدولارات. وهناك أيضًا المئات من هذه المراكز البحثية المنتشرة في أنحاء العالم المختلفة. ويمكن القول إن ثلثي مؤسسات البحوث الأمريكية القائمة حاليًّا قد تأسست بعد عام 1970؛ أي: خلال الخمسين عامًا الأخيرة.

وقد صار بعض خبراء وموظفي تلك المراكز البحثية من الأسماء المشهورة التي تبوأت مناصب ووظائف كبيرة في عالم السياسة، وكان لها تَأْثِيرها الذي لا يخفى على قادة الدول والحكومات، وكان لها أيضًا دورها في توجيه الرأي العام وفرض التصورات التي يريدونها عن المنطقة العربية خاصة والعالم الإسلامي عامة. ومن أمثلة ذلك: (كونداليزا رايس) التي شغلت منصب وزيرة الخارجية في حكومة (بوش الابن) عملت في مجلس أمناء مؤسسة (راند)، و(ستروب تالبوت) الذي شغل نائب وزير الخارجية في حكومة (بل كلينتون) عمل مديرًا لمؤسسة (بروكنجز) للأبحاث.

نماذج من مراكز البحث الأمريكية وأدوارها:

من أشهر وأهم هذه المراكز البحثية (مؤسسة راند):

هي مؤسسة مستقلة غير ربحية، مقرها في ولاية كاليفورنيا، تأسست عام 1948 لتقديم خدمات البحث والتحليل للجيش الأمريكي، ثم توسعت في مجالات البحث والتحليل، وأصبحت تتعامل مع حكومات وشركات وهيئات أخرى، وصار لها أقسام بحثية تُغَطِّي العديد من المجالات، من الصحة والتعليم والأمن والدفاع، وغير ذلك من المجالات التي تحظى باهتمام دولي. ويعمل بالمؤسسة ما يقارب من ألف وستمئة باحث وموظف، يحمل غالبيتهم شهادات أكاديمية عالية، وترتبط المؤسسة بعلاقات مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ومع مكتب التحقيقات الفيدرالية.

مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي:

تأسست عام 1910، ومقرها واشنطن. ثم أسست تلك المؤسسة (مركز كارنيجي للشرق الأوسط) في بيروت بلبنان. ويُعْنَى هذا المركز بالتحديات التي تُوَاجِه التنمية والإصلاح الاقتصادي والسياسي في الشرق الأوسط والعالم العربي. ويضم المركز كوكبة من كبار الباحثين في المنطقة. يسعى المركز إلى إلقاء الضوء على عملية التغيير السياسي في العالم العربي والشرق الأوسط، ومواكبة الأحداث الجارية، وزيادة تَفَهُّم القضايا الاقتصادية والأمنية المطروحة التي تُؤَثِّر في حاضر ومستقبل المنطقة لأهميتها بالنسبة للعالم.

مؤسسة بروكنجز:

أصل تلك المؤسسة هو اندماج معهد البحوث الحكومية الذي تأسس عام 1916 مع معهدين آخرين لتشكيل تلك المؤسسة في عام 1927. ويُعَدُّ هذا المركز أيقونة مراكز الفكر في واشنطن. وينقسم هذا المركز إلى ثلاثة أقسام بحثية: دراسات السياسة الخارجية، والدراسات الاقتصادية، والدراسات الحكومية.

مركز سابان لسياسات الشرق الأوسط:

تأسس هذا المركز في عمان بالأردن عام 2002 كفرع لمعهد بروكنجز، وذلك بمساعدة مالية من الملياردير اليهودي (حاييم سابان)، بدعوى تشجيع السلام العربي الإسرائيلي والحفاظ على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

معهد الشرق الأوسط:

من أعرق مراكز التفكير المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، حيث يركز نشاطه فقط على منطقة الشرق الأوسط والقضايا المتعلقة به، بهدف زيادة التَّعَارُف بين سكان الولايات المتحدة وسكان الشرق الأوسط. وتعود جذور المعهد إلى كلية الدراسات الإستراتيجية الدولية بجامعة (جونز هوبكنز) في واشنطن، ثم استقل المعهد وتحول إلى معهد مستقل. ويعرف المعهد منطقة الشرق الأوسط بأنها المنطقة الممتدة من أفغانستان وباكستان شرقًا إلى المملكة المغربية غربًا، وفي قلبها -كما هو معلوم- العالم العربي.

وقد شهدت المنطقة العربية مراكز عربية لدراسة أحوال ما يُسَمَّى بالشرق الأوسط؛ منها: معهد دراسات الشرق الأوسط بكلية اللاهوت المعمدانية ببيروت، ومركز دراسات الشرق الأوسط بالأردن، ومركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية والقانونية بالسعودية، والمركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، الذي تأسس في عام 2012. وهذه المراكز لا تَخْلُو من وجود عدد من كبار الموظفين الأمريكيين الذين عملوا من قبل كباحثين في مراكز أمريكية، أو مستشارين للرئيس الأمريكي، أو كانوا أعضاء في الكونجرس الأمريكي.

مركز الأمن الأمريكي الجديد:

تأسس عام 2007، واتجاهه العام ينصب على البرجماتية وتطوير سياسات الأمن القومي والدفاع. وأبحاث المركز لا تركز على ملفات محددة بقدر ما تحاول النَّظَر إلى المنطقة العربية والإسلامية من زوايا إستراتيجية كبرى وشاملة.

معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى:

تأسس عام 1985 من قبل لجنة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، وذلك لترقية فَهْم متوازن وواقعي للمصالح الأمريكية في المنطقة.

معهد دراسات الشرق الأوسط:

أسسته كلية (إليوت) للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن عام 2007، لدمج التحليل السياسي والأبحاث العلمية والمناهج الدراسية المتعلقة بالشرق الأوسط بالجامعة. وتتركز مهمة المعهد على دراسة منطقة الخليج العربي خاصة لأهمية المنطقة ولكونها منطقة ذات ثقافة مركبة ومتعددة. ومن أهم الباحثين في هذا المركز السفير السابق للولايات المتحدة بدولة الكويت. ويحظى هذا المعهد بدعم سخي من دولة الكويت.

معهد ستراتفور:

هو مركز دراسات إستراتيجي وأمني أمريكي، تأسس عام 1996، ويُعَدُّ أحد أهم المؤسسات الخاصة التي تُعْنَى بقطاع الاستخبارات، وهو يُعْلِن صراحة عن طبيعة عمله التجسسي، ويُعَدُّ أحد أبرز صور خصخصة القطاعات الحكومية الأمريكية. وقد تعرض المعهد لعملية اختراق كبرى أسفرت عن الكشف عن وثائق (ويكيليكس).

مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي:

تأسس عام 1979 ليكون نقطة وصل بين هيئات الاستخبارات الأمريكية والمؤسسات السياسية، ويضم المركز سياسيين وأكاديميين وعاملين من القطاع الخاص. وفي إطار استشرافات المستقبل، يجري المجلس -بدءًا من عام 1996- تقريرًا كل أربع سنوات.

مجلس العلاقات الخارجية:

أُنشئ عام 1921 ليكون قناة اتصال وتنسيق بين قطاع الأعمال والحكومة الأمريكية. وهو أحد أهم مراكز السياسة الخارجية بالولايات المتحدة، ومن أكثرها تأثيرًا ونفوذًا من خارج الحكومة.

معهد هوفر للحرب والثورة والسلام:

أسسه (هربرت هوفر) عام 1919 بجامعة (ستانفورد) في ولاية كاليفورنيا قبل أن يصبح الرئيس الحادي والثلاثين للولايات المتحدة. وللمعهد صوت مؤثر في السياسة العامة الأمريكية.

 

ومن المعلوم أن لمراكز البحث والفكر الأمريكية امتدادات في العالم العربي في بعض العواصم العربية لمراكز الفكر، ولكن بأسماء جديدة وبدعم مالي أو بحثي من المراكز البحثية الأمريكية، وأحيانًا بإدارة من باحثين كبار عملوا سابقًا في بعض مراكز البحث الأمريكية.

ومن أمثلة ذلك: أن هناك في الدوحة عاصمة قطر مركزًا تابعًا لمؤسسة (راند) منذ عام 2003، ومركزًا آخر تابعًا أيضًا لمؤسسة (بروكنجز).

دور المراكز البحثية في صناعة القرار:

تُعَدُّ عملية صُنْع القرار السياسي في أمريكا عملية معقدة، إذ إن اتخاذ القرار هناك ليس حكرًا على شخص أو طرف بمفرده أو مؤسسة، فالتركيبة التعددية هناك جعلت عددًا كبيرًا من الدوائر يُشَارِك أو يُؤَثِّر في صُنْع القرار، بدءًا من الرئاسة إلى وزارتي الداخلية والدفاع، إلى جانب مجلس الأمن القومي، ومجلسي الشيوخ والنواب، إلى جانب جهات أخرى غير رسمية لها نفوذها، كالإعلام واللوبي، ومنها مراكز البحث -مراكز التفكير- المنتشرة هناك. فهذه المراكز، التي تُعَدُّ الامتداد الطبيعي لتيار الاستشراق التقليدي، تمتلك القدرة على إحداث تغيير في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغير ذلك. فهي تَمُدُّ صانعي القرار السياسي ووسائل الإعلام بتحليلات ودراسات وأبحاث تَفْتَح وتُضِيء الطرق أمام متخذي القرار وصانعي الخطط العملية وصائغي شكل السياسة الخارجية في الدولة.

ويُؤَكِّد على خطورة وأهمية تلك المراكز البحثية: أن ما تُقَدِّمه وتَنْشُره علنًا من دراسات وتقارير وأبحاث أعدتها، نجدها بعد سنوات -قلت أو طالت- أصبحت واقعًا عمليًّا واضحًا أمامنا على أرض الواقع؛ تقول مجلة (الإيكونوميست) البريطانية في إحدى افتتاحياتها: (إن أحدًا لم يَعُدْ في مقدوره أن يُنَاقِش أن هذه المراكز أصبحت بذاتها حكومة الظل في أمريكا، بل وتُؤَكِّد أنها الحكومة الحقيقية التي تُصَوِّغ القرار السياسي وتَكْتُبه، ثم تترك مهمة التوقيع للرئيس ومعاونيه الكبار في الإدارة).

وتساهم تلك المراكز البحثية في التأثير على صناعة القرار في السياسة الخارجية الأمريكية من خلال عدة طرق؛ منها:

1- توليد خيارات وأفكار جديدة مبتكرة في السياسة.

2- توفير مجموعة جاهزة ومستعدة من المتخصصين المؤهلين للعمل في الحكومة من الاختصاصيين عند الطلب.

3- توفير مكان للنقاش على مستوى رفيع.

4- تشكيل ثقافة المواطنين الأمريكيين عن العالم.

5- إضافة وسيلة إضافية مكملة للجهود الرسمية للتوسط وحل النزاعات.

وهناك أمور تتعلق بتلك المراكز يجب مراعاتها:

- ينبغي مراعاة عدم استبعاد الدين من التَّوَجُّهات الإستراتيجية الأمريكية، بما فيها تلك المراكز البحثية؛ إذ إن العلمانية في الولايات المتحدة لا تَسْتَبْعِد الدين أو تَنْفِي وجوده كما في المفهوم الشيوعي، فالمحدد الديني هناك عنصر فعال وعلى درجة كبيرة من الأهمية، ومن هنا تنطلق نظرة المسيحية الصهيونية في أمريكا للعالم الإسلامي وللمسلمين، من ضرورة مُعَادَاة ومحاربة الأصوليين المسلمين لكونهم يَرْفُضون القيم الديمقراطية والثقافة الغربية الحديثة، وفي القلب منهم السلفيون، وضرورة دعم المسلمين التقليديين، خاصة الصوفية منهم، وكذلك تقديم الدعم لأولئك المنفتحين من هؤلاء التقليديين ليصلوا إلى مستوى الأصوليين في الحجة والمجادلة. مع تقديم الدعم الانتقائي للعلمانيين في العالم الإسلامي، مع النَّظَر إلى هؤلاء العلمانيين على أنهم أقلية لا يمكن التعويل عليها، وأن منهم علمانيين راديكاليين متأثرين بالأفكار اليسارية المعادية للتوجهات الأمريكية، أما المعتدلون من العلمانيين الذين يَرَوْن فصل الدين عن الدولة فهم الأولى بالدعم والتأييد. ومن هنا ظهرت الدعوات التي تُنَادِي بما يُسَمَّى بالليبرالية الإسلامية، التي تتمثل في العلمانية المعتدلة المتقبلة لقيم الديمقراطية الغربية.

- ينبغي مراعاة أن الولايات المتحدة عادة لا تَتَآمَر في السر، بل تَنْشُر الخطوط العريضة لمؤامراتها على الملأ. فعلى سبيل المثال، قد دار السجال في العلن منذ أيام رئاسة (بوش الأب) في التسعينات حول غزو العراق، وحتى تم تنفيذ ذلك بعد عقد زمني كامل في عهد (بوش الابن)، سُجِّلت الوقائع المتعلقة بذلك في دوريات السياسة الدولية، وفي مؤتمرات، وفي تقارير مراكز الأبحاث، ودُوِّنت في العديد من كتب ومذكرات المسؤولين.

- لم تَزَلْ المراكز البحثية الأمريكية منذ إنشائها تَضَع المنطقة العربية في بؤرة تَرْكِيزها نظرًا لأهميتها الإستراتيجية؛ إذ إن المنطقة موضع الثروة النفطية التي تُعَدُّ قوام الحياة الحديثة، والمنطقة محور المشروع الصهيوني، والمنطقة -قبل ذلك كله- محور الصراع التاريخي بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.

- تُعَدُّ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة تحول تاريخية نتج عنها تغيير كبير في السياسة الأمريكية لمواجهة تيار -السلفية الجهادية-. ثم كانت ثورة 25 يناير 2011 نقطة تحول أخرى لمواجهة مشاركة تيار من السلفيين وممارستهم العمل السياسي. وهذا ما دفع مراكز البحث الأمريكية إلى القيام بزيارات ميدانية لمصر بعد ثورة يناير لدراسة الحال على الطبيعة عن قرب، وتقدير المواقف، واستشراف المستقبل. إذ إن مراكز البحث والفكر الأمريكية تُعْنَى كثيرًا بمحاولات استشراف المستقبل، فعليها تُبْنَى الولايات المتحدة قراراتها وسياساتها الخارجية. فالمراكز الفكرية الأمريكية لا تَبْنِي سلوكها من فراغ، وإنما هي تَرْصُد وتُحَلِّل الواقع الموجود، وتَسْتَنْتِج مواطن القوة ومواطن الضعف، ثم بناء على تطلعاتها تُحَدِّد وسائل وآليات، وتَرْفَع توصياتها واقتراحاتها لدعم تَوَجُّه وسلوك معين وتَرْك سلوك آخر.

- في الواقع المعاصر تُعْطِي الولايات المتحدة اهتماماتها حول تغيير الإسلام ذاته وحصره في الممارسات التعبدية والعقائد القلبية، مع منع المسلمين من التَّحَرُّك بعقيدتهم لإدارة الحياة. ولعل الدعوة إلى نشر الديانة الإبراهيمية في المنطقة العربية تُعَدُّ صورة واضحة لهذا التَّوَجُّه الأمريكي.

وفي مواجهة هذه الصورة الجديدة من الاستشراق، يحتاج الأمر منا إلى جهود حثيثة للمواجهة، منها:

- العناية بإنشاء ودعم مراكز دراسات إسلامية وعربية.

- العمل على زيادة وعي المسلمين بما يُكْتَب عنهم، وبما يُحَاك ضدهم، وتوقع اتجاهات السياسة الأمريكية، وبالتالي تحذيرهم من الانسياق لتحقيق أهداف الآخرين.

- إنتاج مواد فكرية وإعلامية إسلامية موجهة لباحثي المراكز والإدارات الغربية للتأثير عليهم، أو تصحيح مفاهيمهم الخاطئة لديهم، وكذلك مخاطبة شعوبهم الغربية، فإن هذه المراكز وباحثيها يَفْتَقِدون الكثير عن الفَهْم الصحيح للإسلام والمسلمين، مما يُسَاهِم في زيادة حِرْصهم على تشويه الإسلام ومعاداته.

- متابعة منتجات المراكز الفكرية الغربية عامة، واستلهام الدروس والعبر، وكذلك توخي الحذر منها من خلال النَّظَر المستمر في تقاريرها.

- التحذير المستمر والابتعاد عن الاستدراج أو الوقوع في فخ ما يُسَمَّى بالليبرالية الإسلامية، ومواجهة الدعوات الهدامة إلى ما يُسَمَّى بالديانة الإبراهيمية الجديدة. (للاستزادة، راجع: السلفية بعيون غربية، تأليف: تامر طه بكر، ط. مركز البيان للبحوث والدراسات - الرياض، ط. 1436 هـ).