الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 18 أغسطس 2025 - 24 صفر 1447هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (224) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (7)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).

قال ابن كثير رحمه الله في قوله -تعالى-: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ): "‌أعتق ‌من ‌الجبابرة ‌أن ‌يسلطوا ‌عليه. ‌وكذا ‌قال ‌قتادة. وقال حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن بن مسلم، عن مجاهد: لأنه لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك. وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن الزبير قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة (قلتُ: الصحيح أنه البيت العتيق -أي: القديم-؛ لأنه أول بيت وضع للناس، وهذا هو ظاهر القرآن؛ لأن الله لم يذكر ما ذكروه من الإعتاق من الجبابرة، وقد تسلَّط القرامطة على مكة، وانتزعوا الحجر الأسود، وقبلهم المُبِير المُهلِك الحجاج؛ الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ ‌فِي ‌ثَقِيفٍ كَذَّابًا ‌وَمُبِيرًا) (رواه مسلم)، واتفق العلماء على أن المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي، كان يرمي مكة بالمنجنيق، وأصاب البيت واحترق، وبناه عبد الله بن الزبير، ثم قَتَل عبدَ الله بن الزبير، فالصحيح أن المقصود: البيت القديم؛ الذي هو أول بيت وُضِع للناس كما ذكر الله -عز وجل-).

وقال الترمذي -وساق السند- عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار"، وكذا رواه ابن جرير وقال: إن كان صحيحًا -(قلتُ: أشار إلى ضعفه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي)-" (انتهى من تفسير ابن كثير).

ومع ذلك لا يتسلط على مكة كافر معلن بكفره، وإنما تسلط بعض الجبارين ممن ينتسب إلى الإسلام لا يتبرأ منه -كما ذكرنا-؛ وذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ، ‌كَمَا ‌تَأْرِزُ ‌الْحَيَّةُ ‌إِلَى ‌جُحْرِهَا) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌لَا ‌هِجْرَةَ ‌بَعْدَ ‌الْفَتْحِ) أي: من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، وهذه بشارة بأن مكة ستظل دار إسلام ما بقي في الأرض مسلمون

فائدة: قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ): يقول تعالى ذكره: ثم ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم: من حلق شعر، وأخذ شارب، ورمي جمرة، وطواف بالبيت. عن ابن عمر أنه قال: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) قال: ما هم عليه في الحجّ. عن ابن عمر قال: التفث: المناسك كلها.

عن ابن عباس أنه قال: التفث: حلق الرأس، وأخذٌ من الشاربين، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقصّ الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والموقف بعرفة والمزدلفة.

عن عكرمة قال: التفث: الشعر والظفر. عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ): رمي الجمار وذبح الذبيحة، وأخذ من الشاربين واللحية، والأظفار، والطواف.

عن مجاهد في قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ): حلق الرأس وحلق العانة، وقص الأظفار، وقصّ الشارب، ورمي الجمار، وقص اللحية.

عن ابن جُرَيج سُئِل عن قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) قال: الأخذ من اللحية ومن الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ورمي الجمار" (انتهى من تفسير الطبري).

قلتُ: أخذ الشيخ الألباني -رحمه الله- من هذه الآية وتفسيرها بهذه الآثار، وجوب الأخذ من اللحية بعد التحلل من الإحرام، وهذا الوجوب قول شاذ ليس عند أهل العلم. والحقيقة: أن هذا أمر بعد حظر: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)؛ فهذه الشعور التي تقص كانت بعد المنع من قصها والأخذ منها حال الإحرام، فتعود إلى ما كان عليه الأمر قبل ذلك؛ فهو أمر للإباحة أو للاستحباب، وهو الأظهر؛ لأنه ضمن المناسك، وهو معنى الأخذ من العارضين وقص اللحية -أي: ما زاد على القبضة- كما ثبت عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- من فعله، وهو أنه كان إذا تحلل قبض على لحيته فما زاد أخذه، وهذا مع كونه هو راوي حديث: (أَحْفُوا ‌الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا ‌اللِّحَى) (متفق عليه)؛ فدل على أن هذا من الأخذ المشروع من اللحية فيما زاد على القبضة، أو الأخذ من العارضين شيئًا يسيرًا، كما ثبتت هذه الآثار عن الصحابة والتابعين. والله أعلم.