كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
وُلد أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصفهاني (أو الأصبهاني)، صاحب كتاب الأغاني في سنة 284 هجريًّا، وهذا مما هو متفق عليه، ولكن اختُلف في تحديد سنة وفاته. فذكر ابن النديم -صاحب كتاب الفهرست- أنه توفي في نيف وستين وثلاثمائة هجريًّا، بينما ذكر أبو نعيم في كتابه أخبار أصْبهان أنه توفي في سنة 357 هجريًّا، بينما ذكر ابن أبي الفوارس أنه توفي سنة 356 هجريًّا. ولعل هذا الاختلاف يرجع إلى أن أبا الفرج -كأديب- كان مغمورًا؛ إذ لم يكن كتابه قد اكتسب شهرته بعد، إذ جاءت شهرة الكتاب بعد وفاته؛ لذا طال النسيان سنة وفاته على وجه التحديد.
مولد الأصفهاني:
وُلد الأصفهاني ونشأ وتربَّى في بغداد عاصمة الخلافة العباسية. أما أن يكون قد وُلد في أصبهان، فهذا لم يثبت؛ إذ كانت أُسرة أبيه وأُسرة أمه قبل مولده تُقيمان في مدينة (سُرَّ من رأى)، ولم يُعرف عن والديه الانتقال إلى أصبهان. ومع ذلك فلقب الأصبهاني عُرف أبو الفرج الأصفهاني به، بل وعُرف به العديد من عائلته كعمِّه الحسن بن محمد الأصفهاني وابن عمه أحمد، وكذلك جده محمد بن أحمد الأصفهاني؛ بالإضافة إلى والد أبي الفرج الأصفهاني فهو الحسين الأصفهاني.
والغالب أن لقب الأصبهاني لقب موروث في الأسرة، أو أن أصول الأسرة من أصبهان، وقد قال الثعالبي في ترجمة أبي الفرج الأصبهاني في يتيمة الدهر: "الأصبهاني الأصل البغدادي المنشأ"، بما قد يدل على أن أصوله هم الذين يُنسبون إلى أصبهان، وهذا وارد أن يُعبَّر بأصل الرجل عن آبائه وأجداده لا يُراد به الشخص نفسه ونسبته.
قال د. محمد أحمد خلف الله: "لم يتحقق لدينا أن أبا الفرج قد ولد بأصبهان، وإنما الذي تحقق أن الأُسر التي كانت ينتسب إليها كانت تُقيم بـسُرَّ من رأى. وتحقق لدينا أن حركات انتقالها كانت بين سُرَّ من رأى وبغداد" (ينظر: صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية، د. محمد أحمد خلف الله - ط. مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة - ط. 1962: 28).
ويُضيف قائلًا: "ولا نستطيع بعد كل ما تقدم أن نعدَّ أصبهان من الحدود المكانية لحياة أبي الفرج، لا من حيث إنه لم يثبت لنا أنه قد وُلد بها فحسب، بل لأنه لم يثبت لنا أيضًا أنه ذهب إليها حتى وهو كبير أو أخذ عن شيوخها وهو صغير، أو صوَّرها صورة فنيَّة وهو أديب" (المصدر السابق).
وقد جاء في دائرة المعارف عن أبي الفرج الأصبهاني أنه كان يعيش عيشة الأديب الجوَّال. يقول د. خلف الله: "المواطن التي زارها أبو الفرج والتي استطعنا أن نُحقق أمر زيارته لها وإقامته فيها تحقيقًا تاريخيًّا لا يشوبه الشك هي: بغداد والكوفة وأنطاكية والبصرة وحصن مهدي. وأن المواطن التي نتوقع زيارته لها من حديثه أو من قرائن الأحوال هي: القادسية وسُرَّ من رأى. أما غير ذلك فلا نقطع فيه برأي" (المصدر السابق، ص 32).
أثر النشأة:
يُنسب أبو الفرج من جهة أبيه إلى أُسرة أموية، من نسل مروان بن الحكم. وقد تعرض الأمويون عامة -بعد زوال الخلافة الأموية وظهور الخلافة العباسية- إلى صور من الاضطهاد لم تقف عند حد تأسيس الدولة العباسية، بل امتدت طوال حكم بني العباس. وهذا ما جعل الأمويين يبتعدون عن المشاركة السياسية خلال الحكم العباسي إلا في الخفاء، ولعل ذلك يُفسِّر: لماذا لم يكن أبو الفرج من رجال الدولة أو الندماء في قصور الخلفاء أو من المؤدِّبين لأبناء الخلفاء. ويوضح ذلك ما كان بين الأمويين والعلويين من الصلة وحُسن الجوار، وهو ما دفع أبا الفرج إلى مصادقة خصوم العباسيين من العلويين والطالبيين، ولعل كان لذلك الأثر في نفس أبي الفرج فكان منه تشيُّعه، وكان منه تأليفه في أول عهده لكتابه مقاتل الطالبيين.
ويُنسب أبو الفرج من جهة أمه إلى آل ثوابة، فجده لأمه هو يحيى بن ثوابة. وقد ذكر أبو الفرج ذلك وكرَّره في العديد من المواطن في كتابه. و"كان آل ثوابة من النصارى، وحين أسلموا أصبحوا من غلاة الشيعة ومن الروافض. وقد ترجم لهم صاحب أعيان الشيعة فيمن ترجم لهم من أعيان هذه الطائفة. وهذا الميل الموروث عمل على تقويته وتنميته تلك الظروف السياسية التي كانت تُحيط بأسرة الأب، وهي الظروف التي دفعتها إلى مصادقة الطالبيين" (المصدر السابق، ص 58).
لقد كانت أُسرة الأُم وراء ميل أبي الفرج إلى التشيُّع وجريه على مذهب الزيدية، وهذا ما يُزيل ما أبداه بعض المؤرخين من التعجب من كون أبي الفرج مروانيًّا وشيعيًّا في نفس الوقت.
أساتذة وشيوخ أبي الفرج:
أساتذة وشيوخ أبي الفرج الذي تأثر بهم وروى عنهم، أو الذين جلس منهم مجلس الطالب كثيرون، وإن تفاوتت تأثيراتهم من القوة والضعف. ولقد كان من ضمن شيوخه مُحدِّثون والعديد من اللغويين ورواة الشعر والأخبار، ولكنه انصرف عن رواية الحديث إلى رواية الأخبار، كما أخذ أبو الفرج عن بعض رجال الأخبار واللغة عن طريق المكاتبات التي تدور بينهم.
واللغويون من شيوخ أبي الفرج ببغداد كثيرون، ذكر منهم العديد في كتابه الأغاني، وقد أخذ أبو الفرج عن كل هؤلاء بصرف النظر عن مذاهبهم اللغوية أو مذاهبهم الدينية أو صلتهم برجال الحكم والسياسة، إذ لم يكن همُّ أبي الفرج في كتابه الأغاني إلا الجمع والاستقصاء والتوسع في الرواية وعرض وجهات النظر المختلفة.
ومن الشخصيات التي سبقت عصر الأصفهاني، ولكنه تأثر بهم فنقل عنهم في كتابه الأغاني وسار على طريقتهم وضربهم:
- شخصية (إسحاق الموصلي): قال د. خلف الله: "إن إسحاق هو الأستاذ الأول لأبي الفرج، وإنه الأستاذ الذي ظهرت آثاره واضحة في حياة أبي الفرج العلمية والفنية، لا من حيث ما أخذ أبو الفرج عنه من أخبار بأية طريقة من الطرق أو بأي إسناد من الأسانيد، ولا من حيث تلك الأخبار الكثيرة التي كانت تدور حول إسحاق من حيث هي مادة من مواد كتاب الأغاني، ففي هذين يستوي إسحاق وغيره، بل من حيث أنه الشخصية التي استهوت أبا الفرج فامتلأ إعجابًا بها حتى دفعته إلى اختيار لون مُعيَّن من العلوم والفنون، ولم تقف المسألة عند حد الاختيار وإنما تعدَّته إلى التأليف والتصنيف، وفي التأليف لم تقف المسألة عند حد المواد التي تُجمع فتُذكر، وإنما تعدَّته إلى التصميم، ونعتقد أن أمر أبي الفرج مع إسحاق لم يقف عند تحويل أجناس الغناء إلى مذهب إسحاق، وإنما كان يجري أبو الفرج على أسلوب إسحاق في العرض" (المصدر السابق، ص 72).
ويذكر د. خلف الله أن طريقة إسحاق: "هي الماثلة أمامنا في كتاب الأغاني، وأنها الدستور الذي جرى عليه أبو الفرج في اختيار الأصوات والشعراء والمُغنِّين، وإن الذي دفع أبا الفرج إلى أن يذكر الأجناس على مذهب إسحاق هو الذي جعله يجري في التأليف وأسلوب العرض على مذهب إسحاق أيضًا، وليس ذلك فيما نرى إلا الإعجاب بتلك الشخصية التي تعاون في رسمها الواقع والخيال" (المصدر السابق، ص 73).
- شخصية (أبي العباس عبد الله بن المعتز بالله): وقد أثر فيه بنفس الوسيلة التي أثر فيه بها إسحاق الموصلي وهي الكتب. وكان لقرب عهد عبد الله بن المعتز بعصر أبي الفرج وقوة علم عبد الله بصناعة الموسيقى والكلام على النغم وعِلَلها أثره في قوة عاطفة أبي الفرج تجاهه، فكان عنده الشخصية التالية لشخصية إسحاق الموصلي في شدة الإعجاب وتقليده ومحاكاته، خاصة وأن أبا الفرج قد ألَّف أيضًا في النغم وعِلَلها، لذا جعل أبو الفرج مرويَّات ابن المعتز وأقواله مصدرًا مهمًّا من مصادره، فينقل من كتبه أخبارًا ويروي أحكامه في الغناء والمُغنِّين.
- شخصية أبي تمام: فقد بدأ أبو الفرج بتقليد أبي تمام والجري على مذهبه في البديع أو في المجانَس، لكنه لم يَمضِ في تقليده إلى النهاية، وإنما انصرف عن تقليده بعد جولات لم تستمر.
- شخصية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: فقد أُعجِب أبو الفرج بكتاب ابن طاهر الآداب الرفيعة الذي ألَّفه في النغم وعِلَل الأغاني، واستفاد منه حين كتب في هذه الأشياء.
قال د. خلف الله: "وليس من شك أن الاعتماد على الكتب لا يدع الشخص يحرص على صحبة الأحياء، ولعله يجعله يبحث عن مثله الأعلى في واحد من أصحاب هذه الكتب، وهو الذي رأيناه من أبي الفرج حين أوضحنا أن أساتذته الحقيقيين كانوا من الأموات، كانوا: إسحاق الموصلي وعبد الله بن المعتز. ولعل السر في هذا -لا سيما في بيئة تكثر فيها العناصر المختلفة المتنازعة كبغداد- أن الصور التي يرسمها الخيال للأموات تكون أكمل وأجمل وأكثر نفوذًا وأقوى إيحاء من تلك التي يرسمها الواقع" (المصدر السابق، ص 164).
ومن الشخصيات الذين عاصرهم أبو الفرج وأخذ عنهم:
- شخصية جَحْظَة البرمكي: وهو أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، عُرف بتنوُّع ثقافته وألوان معارفه، فكان أديبًا شاعرًا وإخباريًّا كثير الرواية للأخبار ومن حُذَّاق المُغنِّين، كما كان يُعلِّم الجواري الموسيقى والغناء. وقد اعتنى أبو الفرج بتدوين أخبار جَحْظَة وجمع أشعاره وترجم له في كتاب خاص هو كتاب أخبار جَحْظَة البرمكي. وقد لقي أبو الفرج جَحْظَة وجلس منه مجلس الطالب من الشيخ فكانت بينهما صداقة قوية، كان فيها جَحْظَة قدوة أبي الفرج في حياة اللهو.
- شخصية محمد بن العباس اليزيدي: الذي كان أبو الفرج يُحسن الرأي فيه، وحمل عنه علمًا جمًّا.
- شخصية محمد بن الحسين الكندي: وهو من مشايخه الكوفيين ومن المؤدِّبين، كان أبو الفرج يُكنُّ له الاحترام والتقدير.
- شخصية أحمد بن عبيد الله بن عمَّار: وله كتاب يتفق في اسمه وموضوعه مع كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج، وليس من المستبعد أن يكون أبو الفرج قد صنَّف كتابه هذا تقليدًا لشيخه وجريًا على هَدْيه.
أصدقاء الأصفهاني ومخالطوه:
ومن خلالهم نتعرَّف على نفسية أبي الفرج وخُلُقه الشخصي ومزاجه الفني؛ فقد كان أبو الفرج يجتمع بهم عند الوزير المهلَّبي، فيقص عليهم أبو الفرج الأخبار والنوادر، ويحكي لهم القصص.
ومن أشهرهم:
- الحسن بن محمد المهلَّبي وزير معز الدولة البويهي: كان أبو الفرج مُنقطعًا إلى المهلَّبي كثير المدح له، وكان المهلَّبي من الأدباء الذين يقولون الشعر ويكتبون النثر، ومع وصوله إلى الوزارة وكونه من الأغنياء الموسرين أكثر من طلب اللذائذ، فكان يجمع العلماء والكُتَّاب والأدباء والندماء على موائده فيُكثر من الحديث وأكثره مُذاكَرة بالأدب، ويتَبسَّط في المزاح إلى أبعد غاية. "والأخبار التي يسردها المهلَّبي نفسه والأشعار التي يستعين بها أصحابها على قضاء حوائجهم تحمل هي الأخرى طابع تلك الشخصية المستهترة والشخصية الماجنة العابثة؛ شخصية المهلَّبي. ولقد كان من دأب الرجل أن يُكثر من الحديث على الطعام، وأن يُكثر المزح في الخلوات" (المصدر السابق، ص 91).
- التنوخي: وهو أبو القاسم علي بن محمد بن داود بن فَهم، والذي كان من أعيان أهل العلم، وكان يعدُّه المهلَّبي وغيره ريحانة الندماء؛ إذ إنه كان صورة أخرى من المهلَّبي، فكان في جملة القضاة الذين ينادمون المهلَّبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على إطراح الحشمة والتَبسُّط في الخلاعة.
- الإيذجي: وهو من القضاة أيضًا الذين كانت تجمعهم مجالس المهلَّبي للسَّمر، والتي يُعجبها من القصص ما يُثير الانفعال ويرضي الغرائز والعواطف.
فهذه صورة المجتمع الصغير القريب الذي كان يعيش فيه أبو الفرج، ومنه توجه مزاجه نحو الفن اللاهي العابث.
ثقافة أبي الفرج الغنائية:
ثقافة أبي الفرج الغنائية قد استمدَّها من كتب كثيرة قرأها وألمَّ بها وذكرها في مواطن كثيرة من كتابه الأغاني، وكذلك قد استمدَّها من رحاب قصور الخلفاء والوزراء، وكذلك من دور الأغنياء والموسرين ومن دور الذين اتخذوا من تربية القِيان والغِلمان وتربية المُغنِّين والمُغنِّيات مهنة وصناعة.
وثقافة أبي الفرج الغنائية واضحة من اهتمامه بهذا اللون الفني وتأليفه فيه، و"له رسائل أخرى في النغم وعِلَلها، وفي مسائل الأصابع، وقد بسط هو -كما يقول- هذه المسائل بسطًا لا تحتاج بعده إلى مزيد من العناية" (المصدر السابق، ص 157، نقلًا عن كتاب الأغاني).
حياة أبي الفرج المعيشية:
كان أبو الفرج يسكن في بغداد في دار يمتلكها تقع على نهر دجلة، في مكان متوسط بين درب سليمان ودرب دجلة. ودرب سليمان هو الدرب الذي يُنسب إلى سليمان بن أبي جعفر المنصور، وهو بالجانب الغربي من بغداد. وكان قصر سليمان يقع في هذا الدرب قُبالة رأس الجسر، ومن هنا سُمي الدرب باسمه. وكان لأبي الفرج غلام يقوم بخدمته. وكان في شيء من السعة واليُسر، وكان أصدقاؤه من العلماء والكُتَّاب يزورونه في داره.
قال د. خلف الله: "لم يكن أبو الفرج بالرجل المتزمت، وإنما كان من اللاهين العابثين؛ ذلك الأمر يدل عليه شعره، ويدل عليه نثره، ويفسره صحبته للقوم الماجنين. كان أبو الفرج يشرب الخمر ويحب الغلمان ويحيا حياة المستهترين، ويصف مجالسه تلك شعرًا مرة ونثرًا أخرى" (المصدر السابق، ص 183).
مذهب أبي الفرج الديني:
كان أبو الفرج من الشيعة الزيدية، مع كونه أسرة أبيه مروانية أموية، فابن الأثير يذكر عنه -وهو يقص أحداث سنة ست وخمسين وثلاثمائة- ما يلي: "وفيها توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصبهاني الأموي، وهو من ولد محمد بن مروان بن الحكم الأموي، وكان شيعيًّا، وهذا من العجب" (المصدر السابق، ص 179- 180). وقد ورث أبو الفرج هذا التشيع من أسرة أمه كما ذكرنا من قبل. وقد ألَّف أبو الفرج كتابه مقاتل الطالبيين عن نزعة شيعية، وقد روى عن الطالبيين أخبارًا في كتاب الأغاني، كما روى عن المتشيِّعين كثيرًا من الأخبار.
الجانب الأخلاقي عند أبي الفرج:
قال د. خلف الله عن أخلاقيات أبي الفرج: "قال ابن الجوزي في ترجمته لأبي الفرج: "وكان يتشيع، ومثله لا يُوثَق برواياته؛ فإنه يُصرِّح في كتبه بما يُوجِب الفسق، ويُهوِّن شُرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه" (المصدر السابق، ص 190).
ويُعلِّق د. خلف الله قائلًا: "والتيارات الخُلُقية من حياة أبي الفرج تتفق وما أجمله صاحب المنتظَم (يعني ابن الجوزي). ومن هنا لا نختلف وإياه في شيء، لا سيما وقد عرفنا الكثير مما يتصل بهذه التيارات: من أن أبا الفرج لم يكن بالمتدين، ومن الأجواء التي كان يعيش فيها من جوِّ أستاذه وصديقه جَحْظَة، إلى جوِّ المهلَّبي ومن لفَّ لَفَّه من أمثال القاضي الإيذجي والقاضي التنوخي، أولئك الذين يحيون حياتين، ظاهر: فيه الطهر والعفاف، وباطن: فيه الفسق والفجور، كانت -على ما رأينا- أجواء فاجرة، وأنها تدفعنا إلى التسليم بأن أبا الفرج كان من الذين يتخلَّعون -من الخلاعة- ويتَهَتَّكون، من الذين يشربون الخمر" (المصدر السابق، ص 190 بتصرف يسير).
وأضاف أيضًا: "وأبو الفرج في عُرف المؤرخين حديد، سريع الغضب، بذيء اللسان، يغضب لأتفه الأشياء، ويضيق من أيسر الأمور، ويُطلق لسانه فيمن يَستثير منه الغضب حتى ولو كان من أوفى الأوفياء وأخلص الأصدقاء" (المصدر السابق، ص 191).
"إن الأهواء الشخصية لأبي الفرج يجب أن تُتَحسَّس عند قراءة مروياته كما تُتَحسَّس الأهواء الدينية والسياسية ويُبحث عنهما كما يُبحث عن أثر المادة والمال، فكلها عوامل مؤثرة وبينة الأثر واضحة المعالم، لا من حيث أبو الفرج فقط وإنما من حيث كل مؤرخ أو راوية" (المصدر السابق، ص 200).
عداء أبي الفرج لخلفاء الدولة العباسية:
حمل أبو الفرج العداء للدولة العباسية، وإنما صدر منه هذا العداء: "عن عاملين مهمَّين: عصبية أموية، وتشيُّع علوي، وبعبارة أخرى أخصر وأدق إنما يصدر عن جوٍّ عائلي يُلقِّنه هذه العداوة ويَبثُّ في نفسه شيئًا غير قليل من الكراهية" (المصدر السابق، ص 186)، فقد كان والد أبي الفرج من أسرة أموية في عداء مع العباسيين، وكانت والدة أبي الفرج من أسرة شيعية تكره العباسيين الذين يضطهدون الطالبيين.
قال د. خلف الله: "ومن هنا نشأ وفي نفسه العداوة والكراهية. ولم يستطع أبو الفرج إظهار هذا العداء في صراحة وقوة؛ لأن مركزه ومركز العائلة أضعف من أن يُمكِّنه من هذا الإظهار، ومن هنا احتفظ بسره وكتم عواطفه وحال بينها وبين الظهور إلا في الفَلَتات" (المصدر السابق، ص 186).
المصادر التي استقى منها أبو الفرج كتابه:
نقل أبو الفرج ما كتبه في الأغاني عن مصدرين كبيرين؛ هما: الكتب والرجال. "وكثرة الكتب التي يَصدر عنها أبو الفرج وكثرة النصوص التي يأخذها من بعض هذه الكتب تُؤذِن لنا بأنه في هذا العصر قد بدأ الكتاب يَزحم الشيخ ويحاول أن يَحلَّ محله في الرواية أو في الأداء. ولقد فَطِن ابن النديم -وهو المعاصر لأبي الفرج- هذه الظاهرة من حياة أبي الفرج العلمية، وأشار عند ترجمته له إلى أن أكثر مروياته إنما أُخذت عن الكتب ولم تُؤخذ عن الرجال" (المصدر السابق، ص 261).
إن الكتب "التي يعتمد عليها أبو الفرج ليست كلها من الأصول الجياد أو الكتب الأمهات. وإن هؤلاء الرجال الذين يُكثر من الأخذ عنهم، ليسوا جميعًا من الرواة الممتازين أو من الشيوخ الكبار" (المصدر السابق، ص 262).
وكان أبو الفرج الأصبهاني يدخل سوق الورَّاقين وهي عامرة والدكاكين مملوءة بالكتب فيشتري شيئًا من الصحف يَحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منها "ولعله من هنا عاب بعضهم أبا الفرج بأنه ينسخ من الكتب ويأخذ عن الورَّاقين" (المصدر السابق، ص 293).
"أما مسألة الشيوخ: فيَظهر لنا أن أبا الفرج كان يأخذ عنهم دون أن يشترط في ذلك شروطًا مُعيَّنة بخاصة عندما ينفردون بلون من الأقاصيص والأخبار. وليس ذلك إلا لأنه كان يقصد إلى الجمع، جمع كل ما قيل، ولو كان من المصنوعات والأكاذيب، يقصد إليه لا لأنه راوية والعمل الأول للرواة هو الجمع، بل لأنه كان يقصد في بعض كتبه أو بعض مروياته إلى الإمتاع والمؤانسة. وقد يكون في الأكاذيب ما يمتع، وفي المصنوعات ما يُؤنس ويُدخل السرور إلى القلوب. ومن هنا كان يأخذ أبو الفرج عن الكَذَبة الوضَّاعين وعن غير الضابطين" (المصدر السابق، ص 295- 296).
ومن أمثلة ذلك في كتاب الأغاني: أخذ أبو الفرج عن محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، وقد كان كذَّابًا قبيح الكذب ظاهره. وأخذه عن الباغندي وقد كان مُدلِّسًا. وأخذه عن أحمد بن محمد بن سعيد وقد ضعَّفوه، واتهمه بعضهم بالكذب. وأخذه عن أحمد بن جعفر جَحْظَة، وقد اتهمه أبو الفرج نفسه بوضع النوادر. وأخذه عن الصُّولي وقد كان ينقل الكتب ويَنتحلها. ويأخذ عن ابن دُرَيد وقد كان إخوانه ينصرفون عنه لكثرة تخليطه من شدة السُّكر. وينقل عن كتاب حَبَشي وهو الذي يقول عنه في بعض المواطن إنه رجل لا يُحصِّل ما يقوله ويرويه (راجع المصدر السابق، ص 296- 297).
وإن كان هناك من كلمة ننصح بها قارئ كتاب الأغاني: "فهي أنه يجب أن يضع نصب عينيه دائمًا أن تطبيق أبي الفرج لأساليب المحدِّثين في روايته للأخبار لا يعني دائمًا أن أبا الفرج يصنع ذلك ليضع بين يدي القارئ لكتبه أنواعًا من السلاسل وألوانًا من الأسانيد يستطيع أن يُفاضل بينها حتى يصل إلى الحقيقة. فأبو الفرج إنما يفعل ذلك؛ لأن هذه كانت التقاليد التي كان يجري عليها بعض الرواة، وهي التقاليد التي جاءته من اشتغاله أول عهده بالحياة برواية الحديث.
ويقف أبو الفرج من كل هذا عند هذا الحد. وليس أدل على ذلك من أنه يروي النوادر المصنوعة على طُرُق المحدِّثين مع إيمانه بأنها نادرة مصنوعة، يُقصد منها إلى الإضحاك وإلى الإمتاع والمؤانسة" (المصدر السابق، ص 288).
للاستزادة: راجع (صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية)، للدكتور محمد أحمد خلف الله.
وللحديثة بقية -إن شاء الله-.