الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 12 أغسطس 2025 - 18 صفر 1447هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (223) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (6)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ): "واستدل ‌من ‌نصر ‌القول ‌بأن ‌الأضاحي ‌يتصدق ‌منها ‌بالنصف بقوله في هذه الآية: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، فجزأها نصفين: نصف للمضحي، ونصف للفقراء.

والقول الآخر: أنها تجزأ ثلاثة أجزاء: ثلث له، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به؛ لقوله في الآية الأخرى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (الحج: 36). (قلتُ: وقد بيَّن بعد ذلك أن القانع: مَن لا يسألك، والمعتر: المعترض لك الذي يسألك).

وقوله: (الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، قال عكرمة: هو المضطر الذي عليه البؤس، والفقير المتعفف.

وقال مجاهد: هو الذي لا يبسط يده. وقال قتادة: هو الزّمِن <قلتُ: أي: المريض مرضًا مزمنًا>. وقال مقاتل بن حيان: هو الضرير.

وقوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ): قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو وضع الإحرام مِن حَلْق الرأس، ولُبس الثياب، وقص الأظفار، ونحو ذلك. وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه. وكذا قال عكرمة، ومحمد بن كعب القُرَظي.

وقال عكرمة، عن ابن عباس: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) قال: التفث: المناسك.

وقوله: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: نحر ما نذر من أمر البُدن.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ): نذر الحج والهدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج.

وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة، عن مجاهد: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال: الذبائح.

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) كل نذر إلى أجل.

وقال عكرمة: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)، قال: حجهم. وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم بسنده عن سفيان في قوله: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال: نذر الحج، فكل مَن دخل الحج فعليه مِن العمل فيه: الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وعرفة، والمزدلفة، ورمي الجمار، على ما أُمِروا به. وروي عن مالك نحو هذا. (قلتُ: هذا القول جعل أعمال الحج هي النذر؛ لأن الإنسان حين فرض الحج فقد أوجب على نفسه هذه الأعمال، والظاهر أنها النذور التي ينذرها الإنسان على نفسه؛ سواء من الذبح أو النذر، أو نذر الحج زائدًا على فرض الحج في العمر مرة الذي افترضه الله -عز وجل-، فالقول الأول أرجح).

وقوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ): قال مجاهد: يعني: الطواف الواجب يوم النحر. <قلتُ: أي: طواف الإفاضة>.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت. قلت: وهكذا صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف؛ إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. (قلتُ: الآية دلت على الطواف الركن؛ وهو: طواف الإفاضة، وهو آخر المناسك التي هي ركن في الحج؛ إذ هناك نسك بعد ذلك، لكنه من الواجبات، فرمي الجمار في أيام التشريق الثلاثة والمبيت بمنى، كله من الواجبات الذي يمكن جبره إذا تركه بالدم، وإن كان يأثم مَن تركه، وأما طواف الإفاضة فالذي دلت عليه الآية عند جماهير أهل العلم أن طواف الإفاضة ركن من الأركان، وأما طواف الوداع فهو واجب، والصحيح أنه ليس بنسك؛ فلا يصح حمل الآية عليه. والله أعلم).

وقوله: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ): فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت، حين قصرت بهم النفقة؛ ولهذا طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وراء الحِجْر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني، حدثنا سفيان، عن هشام بن حُجْر، عن رجل، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ورائه. وقال قتادة، عن الحسن البصري في قوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قال: لأنه أول بيت وضع للناس. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح. وقال خَصِيف: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط" (انتهى من تفسير ابن كثير).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.