الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 28 يوليه 2025 - 3 صفر 1447هـ

نصائح وضوابط إصلاحية (53)

كتبه/ سامح بسيوني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

صور من اهتمام الأنبياء والمصلحين بمفهوم التوريث الدعوي:

لقد كان الأنبياء والمصلحون عبر الزمان من أشدِّ الناس حرصًا على هذا المسار لضمان الاستمرار في تحقيق الإصلاح، ومن ذلك:

أ- قوله -تعالى- قاصًّا قول زكريا -عليه السلام-: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم:5، 6)، فزكريا -عليه السلام- يخاف انقطاع النبوة من نسله، ويريد مَن يرثه؛ يرث العلم ويرث النبوة.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وجه خوفه: أن خشي أن يتصرفوا بعده في الناس تصرفًا سيئًا؛ فسأل الله ولدًا يكون نبيًّا من بعده ليسوسهم بنبوته وما يُوحَى إليه فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله؛ فإن النبي أعظمُ منزلة وأجلُّ قدرًا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حَدُّه أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد فيحوز ميراثه دونهم؛ هذا وجه. والثاني: أنه لم يُذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجارًا يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالًا، ولا سيما الأنبياء -عليهم السلام-، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا. والثالث: أنه قد ثَبَت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا نُورَثُ، ‌مَا ‌تَرَكْنَاهُ ‌صَدَقَةٌ) (متفق عليه)، وعلى هذا فتعين حمل قوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي) على ميراث النبوة" (تفسير ابن كثير).

ب- ما كان من توجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في عِدَّة مواقف لبيان أهمية هذا السلوك المهم، فمن ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (‌لِيُبَلِّغِ ‌الشَّاهِدُ ‌الْغَائِبَ، ‌فَإِنَّ ‌الشَّاهِدَ ‌عَسَى ‌أَنْ ‌يُبَلِّغَ ‌مَنْ ‌هُوَ ‌أَوْعَى ‌لَهُ ‌مِنْهُ) (متفق عليه)، وقوله صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس لما أرشدهم إلى بعض أمور دينهم -: (‌احْفَظُوهُ ‌وَأَخْبِرُوهُ ‌مَنْ ‌وَرَاءَكُمْ) (متفق عليه)؛ فهذا التناقل الذي يوجِّه إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو نوع من التوريث ولا شك.

ومن ذلك أيضًا: حرصه الدائم -صلى الله عليه وسلم- على استخلاف أبي بكر -رضي الله عنه- في الصلاة في مرضه؛ وحرصه الدائم -صلى الله عليه وسلم- على استشارة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في الأمور المهمة، فكان ماذا؟! كان أبو بكر -رضي الله عنه- هو الخليفة الأول، وعمر -رضي الله عنه- الخليفة الثاني.

ومن ذلك: مشاورته -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في غزو قريش؛ كما روى ذلك ابن أبي شيبة عن محمد بن الحنفية رحمه الله عن أبي مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ فَجَلَسَ عِنْدَ بَابِهَا، وَكَانَ إِذَا جَلَسَ وَحْدَهُ لَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَدْعُوَهُ، قَالَ: (ادْعُ لِي أَبَا بَكْرٍ)، قَالَ: فَجَاءَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ‌فَنَاجَاهُ ‌طَوِيلًا، ‌ثُمَّ ‌أَمَرَهُ ‌فَجَلَسَ ‌عَنْ ‌يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي عُمَرَ، فَجَاءَ فَجَلَسَ مَجْلِسَ أَبِي بَكْرٍ فَنَاجَاهُ طَوِيلًا، فَرَفَعَ عُمَرُ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ رَأْسُ الْكُفْرِ، هُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّكَ سَاحِرٌ، وَأَنَّكَ كَاهِنٌ، وَأَنَّكَ كَذَّابٌ، وَأَنَّكَ مُفْتَرٍ، وَلَمْ يَدَّعِ شَيْئًا مِمَّا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَقُولُونَهُ إِلَّا ذَكَرَهُ؛ فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ.

ثُمَّ دَعَا النَّاسَ فَقَالَ: (أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِمِثْلِ صَاحِبَيْكُمْ هَذَيْنِ؟) قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَلْيَنَ فِي اللَّهِ مِنَ الدُّهْنِ فِي اللَّبَنِ)، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: (إِنَّ نُوحًا كَانَ أَشَدَّ فِي اللَّهِ مِنَ الْحَجَرِ، وَإِنَّ الْأَمْرَ أَمْرُ عُمَرَ، فَتَجَهَّزُوا)، فَقَامُوا فَتَبِعُوا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نَسْأَلَ عُمَرَ مَا هَذَا الَّذِي نَاجَاكَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: قَالَ لِي: (كَيْفَ تَأْمُرُونِي فِي غَزْوَةِ مَكَّةَ؟) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ قَوْمُكَ، قَالَ: حَتَّى رَأَيْتُ أَنَّهُ سَيُطِيعُنِي، قَالَ: ثُمَّ دَعَا عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُمْ رَأْسُ الْكُفْرِ، حَتَّى ذَكَرَ كُلَّ سُوءٍ كَانُوا يَذْكُرُونَهُ، وَايْمُ اللَّهِ لَا تَذِلُّ الْعَرَبُ حَتَّى يَذِلَّ أَهْلُ مَكَّةَ، فَآمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ وَلِتَغْزُوا مَكَّةَ. (أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.