الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 21 يوليه 2025 - 26 محرم 1447هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (220) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيات في قوله -تعالى-: "(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ): وقال الثوري عن السدي عن مُرَّة، عن عبد الله قال: ‌ما ‌من ‌رجل ‌يهم ‌بسيئة ‌فتكتب ‌عليه، ‌ولو ‌أن ‌رجلًا ‌بعَدَن ‌أبينَ ‌هَمّ ‌أن ‌يقتل ‌رجلا بهذا البيت، لأذاقه الله من العذاب الأليم. وكذا قال الضحاك بن مُزاحم. وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد "إلحاد فيه": لا والله، وبلى والله. (قلتُ: يعني اليمين اللغو إن لم تكن صادقة)، وروي عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، مثله. وقال سعيد بن جُبَير: شتم الخادم ظلم فما فوقَه.

وقال سفيان الثوري، عن عبد الله بن عطاء، عن ميمون بن مِهْرَان، عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قال: تجارة الأمير فيه. (قلتُ: أي لأن الأمير سوف يُجَامَل من أجل إمارته فيظلم الناس)، وعن ابن عمر: بيع الطعام بمكة إلحاد (قلتُ: الظاهر أنها منع الطعام بمكة إلحاد؛ كما في الأثر الآتي). وقال حبيب بن أبي ثابت: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قال: المحتكِر بمكة. وكذا قال غير واحد.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري، أنبأنا أبو عاصم، عن جعفر بن يحيى، عن عمه عمارة بن ثوبان، حدثني موسى بن باذان، عن يعلى بن أمية؛ أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "احتكار الطعام بمكة إلحاد" (قلتُ: حديث ضعيف مرفوعًا، وروي موقوفًا من وجوه متعددة).

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قول الله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قال: نزلت في عبد الله بن أنيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاريّ، ثم ارتد عن الإسلام، وهَرَب إلى مكة، فنزلت فيه: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحاد، يعني: بميل عن الإسلام.

وهذه الآثار، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكنْ هُو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها؛ ولهذا لما همَّ أصحاب الفيل على تخريب البيت، أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل: 4، 5)، أي: دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالًا لكلِّ مَن أراده بسوء؛ ولذلك ثَبَت في الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَغْزُو ‌هَذَا ‌الْبَيْتَ ‌جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، ‌خُسِفَ ‌بِأَوَّلِهِمْ ‌وَآخِرِهِمْ) الحديث.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كُنَاسة، حدثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه قال: أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير، فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحاد في حَرَم الله، فإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنه سيلحدُ فيه رجل من قريش، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت"، فانظر لا تكن هو. (قلتُ: صححه الألباني على شرط الشيخين).

وقال أيضا في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص: حدثنا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد، حدثنا سعيد بن عمرو قال: أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير، وهو جالس في الحِجْر، فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحادَ في الحرم، فإني أشهد لسَمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحلُّها ويحلُّ به رجل من قريش، لو وُزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها"؛ قال: فانظر لا تكن هو. ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين. (قلتُ: كان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- مظلومًا عند جماهير أهل السُّنة، كان أمير المؤمنين إذ ثبتت بيعته قبل بيعة مروان؛ فضلًا عن بيعة عبد الملك بن مروان، وقتل مظلومًا -رضي الله تعالى عنه-).

قوله -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).

هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به من قريش، في البقعة التي أسسّتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بَوأ إبراهيم مكانَ البيت، أي: أرشده إليه، وسلمه له، وأذن له في بنائه.

واستدل به كثيرٌ ممَّن قال: إن إبراهيم، عليه السلام، هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يُبنَ قبله؛ كما ثبت في الصحيح عن أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضعَ أول؟ قال: "المسجد الحرام". قلت: ثم أي؟ قال: "بيت المقدس". قلت كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة".

وقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) الآية (آل عمران: 96، 97)، وقال -تعالى-: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: 125). وقد قدَّمنا ذِكْرَ ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار، بما أغنى عن إعادته هاهنا" (تفسير ابن كثير).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.