الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 21 يوليه 2025 - 26 محرم 1447هـ

غزة في ذاكرة التاريخ (7) تخريب عسقلان وتجريد غزة

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد ذَكَر ابن كثير -رحمه الله- أن مدينة عسقلان فُتحت عام 23 هـ؛ أي: في أواخر خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ فتحها معاوية -رضي الله عنه- صلحًا، ولم تزل عسقلان مدينة عامرة عريقة منذ ذلك العهد، وحتى استولى عليها الصليبيون في عصر الخلافة العباسية عام 548 هـ، ثم استردها صلاح الدين بعد 35 عامًا من احتلالها؛ أي: عام 583 هـ / 1187م.

وقد كان صلاح الدين -رحمه الله- دائمًا ينظر صوب عسقلان؛ ولذا استردها بعد أن وقعت في أيدي الصليبيين، ثم تغيَّرت الأحوال وأتت حملة صليبية جديدة، فاستولى الصليبيون على عكا عام 587هـ / 1191م، ثم سقطت بعد ذلك مدينة حَيْفًا، وهنا اجتمع صلاح الدين مع مستشاريه، فاجتمع مع ذوي الرأي وأهل الشورى، وقادة الجُند، وتدارس معهم خطورة الأمر، ومدى تأثير احتلال المدن الساحلية على مدينة القدس؛ لا سيما وأن الدور على مدينة عسقلان، ولو استطاع الصليبيون السيطرة على عسقلان بما تحويه من قلاع وموقع جغرافي إستراتيجي متميز؛ لشكَّل ذلك خطرًا على بيت المقدس، وكأن عسقلان ستكون هي بداية الطريق لسقوط بيت المقدس، وهنا أشار عليه ذوو الرأي بضرورة تخريب مدينة عسقلان وتحطيمها.

ولنا أن نتخيل موقف صلاح الدين -الذي حرَّر المدينة وشيَّدها وبناها-؛ هل يخرب المدينة بيده ويدمرها؟!

هل يصدر قرارًا بتخريب المدينة وحرقها؟

ولذا فقد أصيب بالهم، وبات يفكِّر طوال الليل، ثم في الصباح وبكل حزن وأسى، أصدر صلاح الدين القرار، بأنه لا بد من تخريب عسقلان.

لقد أمر صلاح الدين بحرق مدينة عسقلان، وأحرق المسلمون عسقلان، وقاموا بحرق الأشجار والثمار، وهدموا الأبنية والقلاع، والسؤال: لماذا؟!

لأن عسقلان هي الطريق إلى القدس وبيت المقدس، والمسجد الأقصى، فإن سيطرة الكفار على عسقلان تشكِّل خطرًا على القدس.

لقد أصدر صلاح الدين -رحمه الله- قراره وهو يبكي، وقد ذكر ابن كثير تفاصيل تلك الحادثة، فقال: "فَصْلٌ فيما حدث بَعْدَ أَخْذِ الْفِرِنْجِ عَكَّا: سَارُوا بَرُمَّتِهِمْ قَاصِدِينَ عَسْقَلَانَ، وَالسُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ يُسَايِرُهُمْ وَيُعَارِضُهُمْ مَنْـزِلَةً مَنْـزِلَةً، وَالْمُسْلِمُونَ يَتَخَطَّفُونَهُمْ وَيَسْلُبُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى حَرْبِ السُّلْطَانِ عِنْدَ غَابَةِ أَرْسُوفَ، فَكَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ عِنْدَ غَابَةِ أَرْسُوفَ أُلُوفٌ بَعْدَ أُلُوفٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ الْجَيْشُ فَرَّ عَنِ السُّلْطَانِ فِي أَوَّلِ الوقعة، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى سَبْعَةَ عَشَرَ مُقَاتِلًا، وهو ثابت صابر، ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ فكانت النصرة للمسلمين، ثُمَّ تَقَدَمَّ السُّلْطَانُ بِعَسَاكِرِهِ فَنَـزَلَ ظَاهِرَ عَسْقَلَانَ، فَأَشَارَ ذَوُو الرَّأْيِ عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ خشية أن يتملكها الكفار، فَبَاتَ السلطان ليلته مفكرًا في ذلك، فلما أَصْبَحَ وَقَدْ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ خَرَابَهَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَمَوْتُ جَمِيعِ أَوْلَادِي أَهْوَنُ عليَّ مِنْ تَخْرِيبِ حجر واحد منها.

ثُمَّ طَلَبَ الْوُلَاةَ وَأَمَرَهُمْ بِتَخْرِيبِ الْبَلَدِ سَرِيعًا قَبْلَ وصول العدو إليها، فَشَرَعَ النَّاسُ فِي خَرَابِهِ، وَأَهْلُهُ وَمَنْ حَضَرَهُ يَتَبَاكُونَ عَلَى حُسْنِهِ وَطِيبِ مَقِيلِهِ، وَكَثْرَةِ زُرُوعِهِ وثماره، ونضارة أنهاره وأزهاره.

وألقيت النار في سقوفه وَأُتْلِفَ مَا فِيهِ مِنَ الْغَلَّاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَحْوِيلُهَا، وَلَا نَقْلُهَا، وَلَمْ يَزَلِ الْخَرَابُ والحريق فيه من جمادى الآخرة إلى سَلْخِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ثُمَّ رَحَلَ السُّلْطَانُ مِنْهَا فِي ثَانِي رَمَضَانَ، وَقَدْ تركها قاعًا صفصفًا ليس فيها معلمة لِأَحَدٍ" (البداية والنهاية).

فَارقهَا السُّلْطَان يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي رَمَضَان وَنزل بالرملة يَوْم الْأَرْبَعَاء وَأمر بتخريب حصنها وتخريب كَنِيسَة لد، ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى النطرون -حصن بين بيت المقدس والرملة-.

وبعد احتلال مدينة عكا عام 1191م، لم يستطع المسلمون الدفاع عن المدن الساحلية، وقد ترتب على ذلك: أن عقد صلاح الدين معاهدة لمدة ثلاث سنوات مع الصليبيين بقيادة (ريكاردوس قلب الأسد) عام (589هـ / 1193م)، وقد نصت المعاهدة على تجريد غزة من حصونها ووسائل دفاعها.

وهكذا غزة كانت محل صراع بين المسلمين والصليبيين عبر محطات التاريخ.

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.