كتبه/ أشرف الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا مع قوله -تعالى-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31).
وتتجلَّى الصورة البديعة في مشهدٍ آخر ممتزج ومنبثق بجمال لافت في السياق من خلال التعبير بالأنساق المختلفة، المشتملة على تقلبات صوتية في الحروف، تجسِّد المعنى من خلال جرس وقعها على السمع، ويظهر ذلك في التحول عن الفعل الماضي (خَرَّ) إلى الفعل المضارع (فَتَخْطَفُهُ) و(تَهْوِي)، ولم يأتِ السياقُ على نسقٍ واحدٍ، فيكون "خرَّ من السماء فخطفته الطير أو هوت به الريح"؛ ذلك أن الفعل الماضي يشير في هذا السياق إلى تحقق حصول الخرور من المشرك لا محالة، حاله حال الماضي في تحققه، فقال: (خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ)، وفيه دلالة على سرعة حصول الخرور والسقوط دون تماسك أو انتظام، كما يوحي به جرس اللفظة: (خَرَّ)، وقصرها وخفتها.
وتكرار صوت الراء فيها؛ إشارة إلى تكرار السقوط والتقلب في الهواء، وما أضفاه التفخيم في الخاء والراء من تفخيم لمشهد السقوط، ويصور سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ بـ"الفاء"، وفي المنظر بسرعة الاختفاء؛ إذ صوَّر لنا فعل (خَرَّ) سرعة السقوط وشدته حتى تسمع صوت سقوطه؛ فقد رسم جرس اللفظ: (خَرَّ) سرعة وصوت الهوي العنيف والسريع.
ثم تحول إلى المضارع(فَتَخْطَفُهُ) و(تَهْوِي)؛ لاستحضار صورة خطف الطير إياه، وهوي الريح به، فكأننا نشاهد خطف الطير له، وهوي الريح به مشهدًا مفزعًا شاخصًا في الحال، فيا لهول المشهد وفاجعة الخيال! فكان التحول إلى المضارع لاستحضار المشهد وإطالته، وأمعن في إطالة مشهد الهوي.
أيضًا مجيء الحرف (في) في قوله: (فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) الذي أفاد هنا الإمعان في تصوير التسفل والسقوط، وكأن المكان السحيق قد أصبح ظرفًا ووعاءً له لا ينتهي فيه إلى قرار، ولو قال: "إلى مكان سحيق" لأفاد انتهاء السقوط به إلى منطقة معينة، كدلالة انتهاء الغاية لحرف الجر "إلى" لغاية الانتهاء، وذلك يوحي بالتهديد الشديد والإيعاد لمن كان هذا حاله.
ولو جرى السياق على النسق نفسه من المضي، لمضى السياق كله على عجالة، دون أن يتمكَّن المتلقي من تدقيق النظر، وإنعام الفكر في مشهد الخطف والهوي.
ثم أتت لفظة (سَحِيقٍ) في هذا البيان، دون "بعيدٍ" في هذا المقام؛ للدلالة على البُعد مع السحق والهلاك، الذي لا نجاة منه ولا انفكاك.
ثم دقق النظر، وأمعن الفكر وزد في هذه الآية: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)؛ فتجد الصورة الماثلة المشاهدة للعيان في تمثيل حال المشرك بالله -نفسيًا، وفكريًّا، وحياةً ومآلًا، بحال مَن هوى مِن علو الإيمان، وسمو التوحيد في سمائه وعليائه، وأفقه المرتفع إلى مهاوي الردى، والشهوات، والمهالك، وبقاع الردى من الفلوات، وهو انتقال تصويري عجيب من المعاني إلى التمثيل لها بالمشاهد والمحسوسات!
فتورث تلك الصورة الماثلة للعيان هزة نفسية لمتلقيها من ذوي الأفهام، ثم يصاحب ذلك الهوي السريع المعبر عنه بالسقوط والخرور المفزع دون تريث أو انتظام؛ لدلالة الهلاك الحتمي الذي لا مناص منه ولا انفكاك، فالساقط من علو يفقد السيطرة على نفسه وفكره وحركته.
وليت الأمر وقف عند ذلك فحسب، بل تزداد الصورة فزعًا، والمشهد هلاكًا بتعدد أنواع الهلاك، (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)، فتخرج له الطير الكواسر في أفق السماء من مجاهيل الفضاء، لتخطفه بسرعة الفعل وخفته، و(تَخَطَّفه) على قراءة نافع؛ لقوته وشدته، وهذه مفزعة مغرقة في الإيذاء، تصوِّر لنا صورة الطير الجائعة وعنفها في تقطيع لحم الهاوي بمخالبها، وتقاسمها لحمه بعنف وسرعة؛ إذ الخطف الأخذ بسرعة، ومنه: سُمِّيَ الطيرُ خطَّافًا؛ لسرعته؛ ولهذا أسند فعل الخطف إلى الطير، فهذه اللفظة دلالتها قوية قوة التشبيه في هذا المقام؛ لما دلَّت عليه من سرعة في الاستلاب وقوة في التنفيذ، بحيث لا تدع له فرصة في الإفلات أو النجاة بما لا تقوم لفظة مقامها في هذا الموضع.
وكذلك الحال في (تَهْوِي) ترسم لنا صورة الإنسان المستسلم الضعيف الذي تقوده الرياح لتقذف به في مكان سحيق، فلا يملك له من أمره شيئًا بعد أن سَلَّم أمره لأهوائه.
زد على ذلك السقوط السريع المستمر، في اتجاه واحد، من ريح شديدة في اتجاه واحد للسقوط، لا رياح متعددة الاتجاهات؛ يكسر بعضها بعضًا فتخفف من شدة السقوط، هذا إلى جانب تعدد حالات الهلاك المعبر عنها بـ(أَوْ) إيحاءً بعنصر المفاجأة، وحتمية الهلكة المتعددة من غير ترتيب أو انتظام، بل المشهد كله سريع فظيع كسرعة التعقيب بالفاء (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ)، فهذه الحركات السريعة الخاطفة، تساعد على رسم المشهد بكل ما فيه من شدة وعنف. (ينظر: عبد السلام أحمد الراغب، وظيفة الصورة الفنية في القرآن).
وهكذا اختفى المشهد ومَن فيه بسرعة رهيبة، وصورة مفزعة؛ لئلا يتوهم أحدٌ أنَّ لِمَنْ يشرك بالله منبتًا، أو وجودًا، أو قرارًا، أو امتدادًا؛ مهما بلغ من الحسب والقوة والجاه والسلطان والمال والبنين، وإنما يأتي في ومضة من المجهول، ليذهب في ومضة إلى المجهول.
والتصوير القرآني لهذا المشهد رعيب رهيب بديع! فهو يطابق حالة معنوية بحالة حسية، بأداة التشبيه (كأنّ) دون غيرها في هذا المقام؛ ذلك أنها أقوى الأدوات في اختصاصها للمماثلة والمشابهة التامة، دون فروق تذكر أو تكاد! وهو ما استعمله البيان القرآني في وصف مقالة ملكة سبأ وقد شاهدت عرشها ماثلًا أمامها، وهو هو، دون أدنى ريب أو شك؛ فكان التعبير والتشبيه الدقيق بـ"كأن": (أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) (النمل:42).
وجاءت الحركات والحروف لتتناسب مع الصورة وتساهم في اكتمالها الذهني، وأثرها النفسي؛ لتعيش بالمخاطب والسامع في جوٍّ لا يملك خروجًا عنه؛ إنها صورة التمزق والضياع التي يعيشها المشرك بالله، الكافر بنعمه، من خلال مقابلات صوتية في الحروف المعبرة تعكس الصورة الحسية المفزعة، فيقابل امتداد الرفعة في علو السماء بمد الصوت معها، (مِنَ السَّمَاءِ) امتداد الصورة المفزعة للسقوط والهوي، المعبر عنها بهوي الصوت، وامتداد انكساره في الأداء، (تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)، إنها مجاهيل متعددة يهوي منها وإليها، وتتخطفه منها كواسر الهلكة! وجوارحها في الفضاء، والسحق المحطم له المقرون بالدوي، الذي يصدره صوت القاف المفخم بقلقلته المدوية في الأداء! ينظر: مقال لعبد الله الهتاري، التصوير البياني من قوله -تعالى-: (خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ).
فحركة السقوط من السماء سريعة، تتبعها حركة سريعة خاطفة ملحوظة في حرف العطف "الفاء"، ثم حركة أخرى تعقبها بسرعة، وهي قذف الريح، وهي صورة مرعبة مخيفة، تمثِّل سوء العاقبة، وردت على شكل (التشبيه التمثيلي دون لفظ مثل)؛ لتصور المشرك في انخلاعه من حماية الله، وتركه المرفأ الأمين، كالساقط من السماء والأخطار تحدق به من كلِّ مكان.