كتبه/ غريب أبو الحسن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنتناول في هذا المقال جواب السؤال الذي طرحناه في المقال السابق، وهو: كيف ننسى؟!
- ننسى: عندما ندرك الحكمة مِن العلاقات، وأنها وسيلة وليست غاية؛ وسيلة نستعين بها على المضي بين صعوبات الحياة ومحنها؛ لنصل إلى غايتنا بدخول الجنان ورضى الرحمن، وأن الوقوف عند الوسيلة ضياع للغاية.
- ننسى: عندما ندرك أننا نستطيع أن ننسى، وأن قصص النسيان والتجاوز يزدحم بها كتاب الحياة، فنادرًا ما ستجد مَن لم يمر بحياته بفقدٍ ثم تجاوزه، فكثير ممَّن ترى حولك قد مروا بما مررتَ به وهم في غالبهم قد تجاوزوا تلك المحنة؛ فأنت تحيا في بحر يموج بالمتجاوزين الذين استطاعوا عبور قنطرة النسيان، وإن دققتَ في الوجوه وجدتَ ندبات تركتها الأحداث، وقد درست مع تعاقب الأيام.
- ننسى: عندما ندرك أنه لا أمل في الرجوع، واليأس مما لا يمكن إصلاحه سعادة؛ لأن ذلك اليأس هو في حقيقته أمل في أن تسعى لإصلاح ما تستطيع إصلاحه على وجه الحقيقة.
- ننسى: عندما نأخذ قرار النسيان بوعي ورشد؛ فأول خطوات النسيان هي قرار النسيان، على أن يكون قرارًا حازمًا لا تهاون فيه ولا تساهل؛ قرارًا نريد به أن نعتق مِن ذل المراقبة وسياط الذكرى على ظهورنا.
- ننسى: عندما نتبع ذلك القرار بسدِّ كل الثغرات التي نراقب منها، وسد كل الأبواب التي تتسلل منها الذكرى لعقولنا، حتى لو أدَّى ذلك لتغيير هواتفنا، أو ترك هواتفنا، أو ترك أماكننا، كما في الحديث: (انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ؛ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ) (رواه مسلم).
- ننسى: عندما نطرد الخاطر من أذهاننا، ولا نسمح للخاطر أن يتحول لفكرة، بل نقتل ذلك الخاطر في مهده؛ نقتله ضعيفًا صغيرًا؛ لأننا نعلم أننا إن تركناه تعملق وابتلعنا!
- ننسى: عندما ندرك أننا قد تعلقنا ببشرٍ مثلنا، ولم نتعلق بملائكة ولا بمعصومين، ولا بمثاليين، وأننا تعلقنا بأناسٍ لم نعاشرهم حق العشرة، فربما لو عاشرناهم وأكملنا حياتنا معهم؛ لرأينا منهم طباعًا ولا بد لا نرضى بها، وانظر في بيوت المتزوجين حولك، فقلما تجد الانبهار والتعلق المبالغ فيه بينهم!
- ننسى: عندما نستعيد علاقاتنا السابقة، فنستعيد صداقتنا ونقويها، ونستعيد صلة الرحم ونعطيها حقها، ونملأ حياتنا بعلاقات طبيعية وصحية؛ فهذه العلاقات تسد جزءًا من فراغ قلوبنا.
- ننسى عندما نعيد ترتيب أولوياتنا، وحين نبصر أننا لم نخلق في هذه الأرض عبثًا وسدىً، وإنما خُلِقنا لمهمة شريفة، ووظيفة غالية؛ خلقنا لنعبد خالق الأرض والسماء، وأننا كلما تعلقنا بالله صغر في أعيننا أي تعلق بغيره، وأن التعبد لله يسد أي فاقة لغيره.
- ننسى: عندما نملأ حياتنا بكلِّ مفيد، ولا نترك الفراغ يفترس سعادتنا وطموحنا، فيكون يومنا بين عبادة وذكر، وتعلم وتدريب، وتطوع وبذل، وعمل وكسب، فتيأس الذكرى أن تجد لها عندنا فضلًا من وقتٍ.
- ننسى: عندما نصبر على ترك المألوف قليلًا، ونتحمل بعض الألم؛ فالشجاعة صبر ساعة، ثم بعدها يأتي الفرج، وستعجب بعد حينٍ -عندما تنسى- من حالك الآن، وكيف أعطيت لهذه العلاقة وهذه العاطفة كلَّ هذا الحجم من حياتك! فمثلك كمثل النائم في أرض ضحلة يظن نفسه يغرق، فإذا قام رأى أن الماء لم يكن يتجاوز ساقه.
- وعندما يعانقك النسيان: تهدأ نفسك، ويُفتح باب قلبك مِن جديدٍ؛ فتشرق الشمس بقلبك، ويستعيد حيويته؛ فتختار مَن يناسبك، وتختار من طريق الحلال له سهلًا ميسورًا؛ تختار بلا انبهارٍ، تختار مَن تبصر عيوبه قبل ميزاته؛ فهذا أدعى لدوام العشرة القائمة على علاقةٍ طبيعيةٍ، ومحبةٍ طبيعيةٍ؛ فشدة التعلق تعرقل الإنسان عن باقي شئون حياته، والغرض من العلاقات الإعانة، وليس الإعاقة.
- فقط خذ القرار، وكن حازمًا.