الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 20 ديسمبر 2022 - 26 جمادى الأولى 1444هـ

حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر كأنك تراها (14)

محاولة احتلال الإسماعيلية والسويس

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد مضي نصف قرن هجري من الزمان على حرب العاشر من رمضان 1393 إلى رمضان 1443 هـ - السادس من أكتوبر، رَحَل -أو يكاد- مَن حضروا هذه الحرب أو عاصروها؛ فلزم علينا أن نذكِّر الأجيال الجديدة بهذه الحرب المجيدة، وما قدَّم المصريون فيها مِن تضحياتٍ، وما بذلوه من جدٍّ واجتهاد في قوة تحمُّل وصبر، وإخلاص وصدق حقَّقوا به مجدًا كبيرًا في ظروف أسوأ وأصعب بكثيرٍ مِن الظروف التي نعاني منها حاليًا؛ إنها روح العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر التي نفتقدها الآن، ونحن أحوج ما نكون إليها.

كان الهدف الإستراتيجي من عملية عبور القوات الإسرائيلية ثغرة الدفرسوار إلى غرب القناة هو احتلال مدينة الإسماعيلية، ثم مساومة مصر عليها مقابل الانسحاب أو التراجع عن الأراضي التي حررتها مصر من سيناء خلال الأيام الأولى من الحرب، وكان الفشل في تحقيق ذلك، يعني أن العملية برمتها لم تحقق الهدف الرئيسي منها.

بدأ التسلل الإسرائيلي عبر القناة في ليلة 15/16 أكتوبر من الجهة الشمالية للبحيرات المرة الكبرى، بمجموعة قتالية صغيرة تابعة لفرقة شارون مكونة من: 30 دبابة برمائية، و300 جندي مظلات، وكانت القوات الإسرائيلية قد حاولت إخراج القوات المصرية من منطقة المزرعة الصينية والاستيلاء عليها؛ لتأمين ودعم عبور القوات الإسرائيلية للقناة من جهة الدفرسوار، ولكنها فشلت في ذلك بعد قتال شرس استمر ثلاثة أيام.

لم يتنبه القادة المصريون لعبور المجموعة الإسرائيلية الصغيرة؛ إذ لم يتوقعوا مثل هذه المجازفة بأن يدفع العدو بقوات لتحقيق هدف إستراتيجي كبير بدون جسور ثابتة مؤمنة، فكانت منطقة العبور شبه خالية من القوات المصرية بعد عبور فرقتي الاحتياط المصرية من غرب القناة إلى شرقها لدعم تطوير الهجوم المصري في سيناء في 14 أكتوبر؛ مما أضعف القدرة على رصد ومراقبة هذا العبور الصغير في أول الأمر، ولتفادي الرصد قامت قوة مظلات العدو بالاختباء في الحزام الأخضر من القناة الموازي لترعة المياه الحلوة الذي تكثر فيه زراعة المانجو، بينما اختبأت الدبابات في هناجر مطار الدفرسوار.

أخذت هذه القوة في التزايد ليلة بعد ليلة، وكوَّنت مجموعات صغيرة هاجمت مواقع صواريخ الدفاع الجوي غرب القناة في المنطقة؛ فأحدثت لأول مرة -وبعد 11 يوم من الحرب- فجوة في حائط الصواريخ المصري غرب القناة؛ مما منح طيران العدو حرية التحرك في قطاعات معينة تكون فيها بعيدة عن مدى صواريخ الدفاع الجوي المصري.

وفي يوم 18 أكتوبر بلغت القوات الإسرائيلية غرب القناة نحو 300 دبابة و2000 جندي مظلات، وفشلت محاولات القصف المدفعي المصري الأولى في التصدي لتلك القوات التي نجحت في تدمير ما كان موجودًا من الدبابات المصرية في المنطقة، ليصبح وجود القوات المصرية في المنطقة منعدمًا تقريبًا.

مهاجمة الإسماعيلية:

ونظرًا لتوقع القيادة الإسرائيلية قرب صدور قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار كان يجب عليها الإسراع بتحقيق الهدف من الثغرة بسرعة، وهو احتلال الإسماعيلية التي تعد مركز الجيش الثاني الميداني، والاستيلاء عليها معناه تهديد مؤخرة الجيش الثاني وقطع الإمدادات عنه من شرق القناة وعزله وحصاره، وتحقيق ذلك لا شك سيحدث دويًّا سياسيًّا كبيرًا، ومجدًا وشهرة واسعة لشارون؛ مما يلبي أحلامه؛ لذا سعى شارون لاحتلال الإسماعيلية في أسرع وقت في ظل مساندة قوية من الطيران الإسرائيلي الذي واصل غاراته العنيفة على مدن القناة.

ونظرًا لطبيعة الأرض الزراعية، فكان من الصعب تحرك ومناورة الدبابات والمدرعات، فكان تحرك قوات العدو مقيدًا بالطرق التي تسمح بذلك، ولمواجهة محاولة احتلال الإسماعيلية؛ قام اللواء أركان حرب عبد المنعم خليل ومعه قوة مكونة من: لواء مظلي، وكتيبة صاعقة، بمواجهة القوة الإسرائيلية المكونة من فرقة إسرائيلية مدرعة، ولواء مظلي، بعد منحه حرية التخطيط للدفاع عن مدينة الإسماعيلية، فقام بوضع خطة دفاعية متكاملة لحماية جميع مداخل الإسماعيلية، مع جعل ترعة الإسماعيلية بمثابة مانع مائي طبيعي أمام قوات شارون المتقدمة شمالًا.

وفي يوم 19 أكتوبر عبر لواء إسرائيلي لغرب القناة في منطقة طوسون التي تقع على بعد 12 كيلو متر جنوب الإسماعيلية، واستولى على تبة الشيخ حنيدق على بعد كيلو ونصف كيلو شمال طوسون.

قام شارون بأول هجوم له على الإسماعيلية يوم 20 أكتوبر مدعومًا بقصف جوي ومدفعي، ولكنه فشل وتراجع، وفي اليوم التالي وبعد قصف مدفعي هائل تمهيدي للتقدم؛ هاجم شارون الإسماعيلية فتعرض لنيران رجال الصاعقة التي أجبرته على التراجع.

وطوال ليلة 21 / 22 أكتوبر قامت المدفعية المصرية بقصف مركَّز على القوات الإسرائيلية غرب القناة بالمدفعية، بينما أغارت الطائرات الإسرائيلية على مدن القناة، وتم التصدي لمفارز إسرائيلية مدرعة على طريق (المعاهدة) في اتجاه كوبري (نفيشة) وعلى الطريق الصحراوي في اتجاه الكوبري العلوي، وأجبرت هذه القوات الإسرائيلية على الانسحاب.

وفي صباح 22 أكتوبر تكرر التصدي لمحاولة العدو للتقدم بمعاونة الطيران الإسرائيلي حيث أوقفت عناصر استطلاع الصاعقة المصرية الأمامية تقدُّم سرية مشاة للعدو في اتجاه قرية (أبو عطوة)، وأوقعت به خسائر كبيرة، كما تم إيقاف تقدم قوات العدو على محور (نفيشة).

ومع صدور قرار وقف إطلاق النار في 22 أكتوبر توقف القصف المدفعي، واقتصرت جهود العدو على إخلاء القتلى والمصابين، وقرر شارون بعد هذا الفشل صرف النظر عن دخول الإسماعيلية حفاظًا على قواته، على أن تتوجه جنوبًا.

في 26 أكتوبر عاود العدو -رغم قرار وقف إطلاق النار- تقدمه من جديد لقطع طريق القاهرة الإسماعيلية الصحراوي، وعزل مدينة الإسماعيلية، فتصدت له قوات من الدفاع الشعبي التي كانت تقوم بتأمين الطريق وأجبرت قوات العدو على الانسحاب، تم بعدها الدفع بقوات احتياط إضافية من الجيش الثاني لزيادة قوة الخط الدفاعي.

وحوَّل العدو بعد فشله في الاستيلاء على الإسماعيلية جهوده جنوبًا -رغم قرار وقف إطلاق النار- للاستيلاء على السويس بعد أن أثبتت معركة الإسماعيلية التفوق الكبير لقوات الصاعقة والمظليين المصريين على سلاح المدرعات الإسرائيلي، وقد أقيم بعد نهاية الحرب نصب تذكاري شرق قناة السويس أمام المنطقة رقم 6 تخليدًا لمعركة الإسماعيلية، كما أنشأ متحف حربي في قرية (أبو عطوة) يقع على بعد 3 كيلو متر من مدينة الإسماعيلية.       

معركة السويس:

هي آخر معركة كبرى في حرب أكتوبر، حاول فيها العدو الاستيلاء على مدينة السويس بعد فشله في احتلال الإسماعيلية لتكون السويس ورقته الرابحة للمساومة في المباحثات المتوقعة بعد وقف إطلاق النار، وكذلك لقطع الإمدادات عن الجيش الميداني الثالث شرق القناة وحصاره.

ورغم صدور قرار مجلس الأمن رقم 338 بوقف إطلاق النار في 22 أكتوبر وموافقة إسرائيل عليه، فقد واصلت القوات الإسرائيلية تحركاتها غرب القناة متوجهة جنوبًا تجاه السويس، وأمام اعتراض مصر على انتهاك العدو للقرار، صدر يوم 23 أكتوبر القرار رقم 339 بتأكيد وقف إطلاق النار وعودة القوات المتحاربة إلى الخط الذي كانت عليه يوم 22 أكتوبر مع إرسال مراقبين دوليين إلى جبهة القتال للفصل بين الطرفين، وقد وافقت إسرائيل على هذا القرار، ولكنها كالعادة لم تلتزم به، بل سارعت لتحقيق أكبر قدرٍ من المكاسب قبل وصول قوات الطوارئ الدولية؛ فقد كان إعلان إسرائيل لقبولها لوقف إطلاق النار في المرتين ستارًا خادعًا لتقوم من ورائه بعملياتها القتالية المستمرة!

كانت قوات العدو بقيادة إبراهام آدان، ويوسي يوفي مكوَّنة من: لواء مدرع، وكتيبة من المظليين، قد انتشرت في جيب طويل يمتد من جنوب ترعة الإسماعيلية إلى ميناء الأدبية جنوب السويس، بل والوصول شمالًا إلى طريق القاهرة السويس عند علامة الكيلو 101، مع السعي للقضاء على بقايا القوات المصرية التي حاولت تعطيل انتشار قوات العدو، بما يعني منع أي تدخل مصري من جهة غرب السويس وتأمين غرب قوات العدو.

وقد سعى العدو إلى حصار السويس حصارًا كاملًا؛ فقام بقطع طريق السويس القاهرة من جهة الغرب، وقطع الطريقين الموصلين إلى الإسماعيلية من جهة الشمال، وهما: طريق القناة، وطريق المعاهدة، وقطع الطريق البري الذي يربط السويس بميناء الأدبية وخليج السويس من جهة الجنوب، كما قام العدو كذلك بقطع ترعة السويس المتفرعة من ترعة الإسماعيلية، والتي تمد السويس بالمياه العذبة، وقام بتدمير شبكة الضغط العالي التي تحمل التيار الكهربي من القاهرة إلى السويس، كما قطع أسلاك الهاتف التي تربط المدينة بالعالم الخارجي.

ولعزل السويس بحريًّا وصلت قطع بحرية إسرائيلية صباح 24 أكتوبر إلى ميناء الأدبية لقطع الطريق البحري بين السويس وخليج السويس والبحر الأحمر، كما تم تطويق الجيش الثالث الميداني في سيناء شرق القناة بقوتين من قوات (آدان) و(ماجن)، وكان الجيش الثالث يتكون من: الفرقتين 7 مشاة و19 مشاة و250 دبابة، ويبلغ عدد أفراده نحو أربعين ألف ضابط وجندي يتم إمدادهم وتموينهم عن طريق السويس التي باتت تحت الحصار الشديد، وقد كانت كل هذه المناطق المحاصرة خارج نطاق عمل شبكة صواريخ الدفاع الجوي بما جعلها عرضة باستمرار وبلا توقف لهجمات العدو الجوية العنيفة، وزاد الأمر سوءًا: أنه لم تكن هناك قوات كافية للقيام بأي هجوم مضاد لفكِّ هذا الحصار المحكم.

وطوال المدة من 24 أكتوبر إلى 27 أكتوبر لم تتوقف قوات العدو عن الانتشار في أكبر مساحة غرب القناة والإعداد لاقتحام السويس وحصار الجيش الميداني الثالث؛ لدفعه إلى التسليم لإجهاض الانتصار الكاسح للمصريين في الحرب.

وقد جَرَّأ العدو على القيام بذلك: الجسر الجوي والبحري الذي أقامته أمريكا لإمداد إسرائيل بكلِّ ما تحتاجه من أحدث الأسلحة، وتعويضها كل ما خسرته خلال الحرب من معدات ومدرعات، وكذلك ما التزمت به أمريكا في اجتماعات مجلس الأمن من حماية أمن وسلامة إسرائيل.

وفي المقابل: كانت السويس في وضع سيئ للغاية؛ فقد تم تهجير سكانها وهم نحو ربع مليون مواطن إلى باقي محافظات مصر بعد هزيمة 1967 م، ولم يبقَ في المدينة إلا نحو 5 ألاف فرد معظمهم من الجهاز الحكومي، ومن موظفي وعمال شركات البترول والسماد بمنطقة الزيتية، ومن رجال الشرطة والدفاع المدني؛ بالإضافة إلى مدنيين قَدِموا من الإسماعيلية وما حولها هربًا من زحف مدرعات العدو وغاراته الجوية.

كانت السويس خالية من القوات العسكرية التي يمكنها الدفاع عن المدينة سوى بقايا أفراد من مؤخرات الوحدات التي عبرت إلى شرق القناة، وبعض أطقم من صائدي الدبابات معهم عدد صغير من قاذفات الصواريخ (آر بي جي)، وبقايا من وحدات إدارية وأفراد من الشرطة، إلى جانب رجال ميليشيا مسلحين تسليحًا خفيفًا من منظمة سيناء العربية، وهي منظمة تكونت بعد هزيمة يونيو 67 كانت تقوم ببعض الأعمال الفدائية خلف خطوط العدو قبل حرب أكتوبر 1973.

كما كانت هناك بقايا جنود لجأوا إلى السويس ليحتموا فيها عقب اشتباكات سابقة مع القوات الإسرائيلية الموجودة في الثغرة، إلى جانب متطوعين من المقاومة الشعبية التي تزعمها الشيخ حافظ سلامة رحمه الله، إمام وخطيب مسجد الشهداء، ورئيس الجمعية الشرعية بالسويس.

وقد فتحت مخازن سلاح الشرطة للمتطوعين، وكذلك تم استخدام ما كان لدى الجنود المصابين في المستشفى العام في المدينة من أسلحة وذخائر، واستخدمت شبكة رجال الشرطة اللاسلكية لتكون حلقة لاتصال الوحيدة بين المدينة والقاهرة، وقد نجح تلاحم هذه المجموعة بفضل الله تعالى في تحويل المدينة عند اقتحام العدو لها من مدينة للأشباح إلى قلعة تتصدى للعدو.

لقد كانت السويس عسكريًّا بعيدة عن خطر التعرض للغزو أو الإغارة الجوية من العدو خلال الأيام الأولى من الحرب؛ خاصة بعد عبور القناة، واجتياح خط بارليف، وتأمين رؤوس الكباري، والتوغل في سيناء، والتغلب على الهجمات المضادة للعدو؛ لذا لم تُتخذ أيُّ تدابير عسكرية بشأن الدفاع عن المدينة، ولم تكن هناك أي خطة موضوعة تحسبًا لمواجهة اقتحام محتمل للمدينة، ولم يُعيَّن للمدينة قائد عسكري؛ لذا لما تعرَّضت المدينة لخطر الاقتحام، صدر القرار بتعيين المستشار العسكري للمحافظة قائدًا عسكريًّا لها مساء يوم 23 أكتوبر.

هاجمت القوات الإسرائيلية السويس صباح يوم 24 أكتوبر من عدة محاور، حيث هاجم لواء القائد (جابي) من اتجاهين: اتجاه الغرب من محور طريق القاهرة - السويس، واتجاه الجنوب الغربي من طريق الزيتية - السويس، متوجهًا إلى وسط المدينة.

وهاجم لواء القائد (آريين) من اتجاهين: اتجاه الشمال من طريق الجناين، واتجاه الشمال الغربي بموازاة طريق القاهرة - السويس، متوجهًا أيضًا إلى وسط البلد للالتقاء بقوات جابي هناك.

بينما قامت قوات لواء القائد (دوفيك) بعملية تطهير لطريق القاهرة - السويس، وللحزام الأخضر الواقع بين الشلوفة والسويس، وقد مَهَّد العدو لاقتحام المدينة بقصف مدفعي كثيف وقصف جوي مركَّز؛ خاصة للأحياء السكنية طوال يوم 23 أكتوبر وصباح يوم 24 أكتوبر من الساعة السادسة صباحًا حتى الساعة التاسعة قبل الاقتحام؛ وذلك للقضاء على أي قوى للمقاومة داخل السويس، وتسبب القصف في تدمير للمباني وإشعال للحرائق فيها واستشهاد وجرح كثيرين امتلأت بهم المستشفى العام، وضاقت بهم العنابر والأسرة، مع انقطاع الكهرباء والمياه والاتصالات، وقلة الأدوات الطبية، وأدوية الإسعاف والعلاج.

وقد لاحظ المدافعون عن المدينة تجنب العدو قصف الشوارع الرئيسية في محور المثلث في المدخل الغربي، ومحور الجناين، وهو المدخل الرئيسي للقادم من الإسماعيلية، ومحور الزيتية في المدخل الجنوبي؛ مما يعني الحفاظ على هذه الطرق سليمة حتى يتم اقتحام المدينة منها، وعليه كان التخطيط لإعداد عدة كمائن لتصيد قوات العدو فيها.

وقرب الساعة الحادية عشرة صباحًا تقدَّمت قوات العدو في ثلاثة أفواج لاقتحام المدينة، وطبقًا للخطة الموضوعة لم تبدِ المدينة أي مقاومة للقوات المقتحمة، والتي توغلت في شوارع المدينة شبه الخالية وبدون أدنى مقاومة؛ فوصل الفوج الأول مفترق الطرق في ميدان الأربعين، وكان الفوج مكونًا من ثلاث مجموعات، في كل مجموعة 8 دبابات تتبع كل دبابة منها عربة مدرعة، وقد اطمأن العدو إلى خلو المدينة من المقاومة، وبرز قائدو الدبابات خارج أبراج دباباتهم في زهو، وهنا بدأ عمل كمائن المقاومة بإطلاق قذيفتين (أر بي جي)؛ فأصيبت دبابة إصابة خفيفة واشتعلت النار بناقلة جنود مدرعة للمظليين، فكانت هي الإشارة لهجوم جموع المقاومة من الجنود والمدنيين من المباني المجاورة والطرق المؤدية إلى ساحة الأربعين على الدبابات وقوات المدرعات بنيران كثيفة من أسلحتهم الخفيفة، وبالقنابل اليدوية، وقنابل المولوتوف من كلِّ اتجاه؛ مما أصاب قوات العدو بالذعر والذهول فارتبكوا، وقفز جنود العدو من مركباتهم فارين من جحيم النيران للاحتماء والاختباء في المباني المجاورة، فتم تصفية بعضهم وجرح آخرين.

ولما رأت جنود الفوجين الثاني والثالث ما وقع لقوات الفوج الأول، مع صعوبة تمييز وتحديد مصادر واتجاهات النيران، وتعذر طلب معاونة المدفعية أو الطيران نظرًا للتداخل بين الطرفين؛ استداروا راجعين لئلا تزداد الكارثة، ومع الارتباك وضيق الطريق اصطدمت بعض مدرعات العدو ببعض، وتسببت في تحطيم أسوار الطريق الجانبية، وقد جرح في المعركة قائدهم (يوسي يوفي) بعد إصابة مدرعته بقذيفة (آر بي جي)، وقد نجح نحو 50 من المظليين الإسرائيليين في اقتحام مبنى قسم شرطة الأربعين، فقتلوا شرطيين مصريين وأسروا ثمانية آخرين، وسيطروا على مبنى القسم المكون من طابقين والمحاط بجدران عالية، ووزعوا أنفسهم على نوافذ المبنى والجزء الأمامي منه، وخصصوا غرفة للإسعافات، وتمكَّن 5 رجال من المظليين في التمركز على سطح مبنى مجاور يمكنهم منه إطلاق النار على المقاومين المحيطين بالمبنى.

دارت حول قسم الشرطة اشتباكات عديدة حاول فيها رجال الشرطة المصريين استعادة القسم وإنقاذ الأسرى، وتم ضرب المبنى بقذائف (آر بي جي) وقنابل يدوية؛ مما تسبب في إشعال النار في الطابق الثاني من المبنى، لكن تمكَّن جنود العدو من صد الهجوم وإخماد الحريق، وقتل عدد من رجال الشرطة المهاجمين.

وفي الساعة الرابعة تكررت محاولة اقتحام المبنى ولم تنجح، ولكن تم صعود سطح المبنى المجاور وقتل المظليين الخمسة الذي كانوا فوقه، وفي منتصف الليل قام رجال المقاومة بإحراق دبابات وناقلات جنود العدو التي تركوها على جانبي الشوارع بالبنزين خشية عودة الإسرائيليين إليها واستخدامها من جديد، وفي ظلمة الليل تمكَّن جنود العدو من مغادرة قسم الشرطة ومعهم قتلاهم وجرحاهم والهروب من المدينة والعودة إلى قواتهم المتواجدة خارج المدينة.

وفي اليوم التالي 25 أكتوبر، دعا قادة العدو محافظ السويس إلى التسليم مهددين بتدمير المدينة بغارات الطيران واقتحامها من جديد، وتم رفض الإنذار الإسرائيلي، وتبيَّن بعدها أن الإنذار كان إنذارًا غير حقيقي، بل خدعة؛ إذ لم تجرؤ قوات العدو على اقتحام المدينة ثانية مكتفية بحصارها من الخارج، وتطويق الجيش الميداني الثالث شرق القناة.

وفي نفس اليوم تم نقل الشهداء والجرحى إلى المستشفى العام بالمدينة، وفي يوم 30 أكتوبر تم نقل جثث الشهداء من المستشفى العام ودفنها في مقبرة الشهداء بالروض. 

وفي يوم 28 أكتوبر، وبعد الموافقة على قرار وقف إطلاق النار الثالث في 25 أكتوبر، اتخذ المراقبون الدوليون أماكنهم غرب السويس، وأنشأوا نقاطًا ثابتة على الخط الفاصل بين القوات المصرية والإسرائيلية التي انتشرت حتى الأدبية جنوبًا ونقطة الكيلو 101 من طريق السويس القاهرة غربًا، وهكذا خسر العدو معركة السويس وتكبَّد فيها ثمنًا غاليًا، وقد اعتبر يوم 24 أكتوبر من كل عام عيدًا قوميًّا للسويس. 

نهاية مغامرة شارون الفاشلة:

جاء الفشل في احتلال الإسماعيلية والسويس إعلانًا بانتهاء المغامرة غير المحسوبة التي دعا إليها ونفَّذها شارون من خلال ثغرة الدفرسوار، وضياع حلمه في تحقيق مجد عسكري يحسب له، وقد تكرر فشل شارون في حرب أكتوبر ثلاث مرات: الأولى: في قيادته لهجوم المدرعات الإسرائيلية المضاد الكبير في محور سيناء الأوسط بعد استكمال تعبئة القوات الاحتياطية في يومي: 8 و9 أكتوبر، وتكبدت فيه قواته خسائر فادحة. والثانية: في قيادته لهجوم المدرعات الإسرائيلية لمدة ثلاثة أيام -14 و15 و16 أكتوبر- على الكتيبتين المصريتين: 16 و18؛ للاستيلاء على المزرعة الصينية، وقد تكبَّدت قواته فيه خسائر فادحة، والثالثة في قيادته للهجوم الإسرائيلي على الإسماعيلية أيام 20 و21 و22 أكتوبر، وقد تكبدت قواته فيه خسائر فادحة، بل وأصيب شارون نفسه ونقل للعلاج.

وكما كان للجسر الأمريكي دوره الكبير في إنقاذ إسرائيل بعد خسائرها الفادحة في المعدات والأفراد، فكان أيضًا للضغط الأمريكي السافر على القيادة السياسية لمصر دوره لتقبل الحل السياسي بدل الحل العسكري، وقد كان هذا أيضًا هدفًا للقيادة السياسية المصرية وقتها، وكان ذلك من أمريكا لإنقاذ قوات العدو غرب القناة من التصفية؛ خاصة بعد تعرضها لحرب استنزاف طويلة من القوات المصرية التي تطوقها، وبعد إعداد الخطة الشاملة لتصفية الثغرة بعد إعادة تعبئة القوات المصرية ووصول إمدادات عربية إليها، وبعد فتح ثغرات في حقول ألغام القوات العدو غرب القناة.

المقاتل المصري مفاجأة حرب أكتوبر:

لقد جمع شارون بين: التهور والاندفاع، والعناد، والكبر، وبطء الفهم والاستيعاب؛ إذ لم يدرك نوعية المقاتل المصري الذي يقاتله إلا بعد فوات الأوان، وهو ما اعترف به شارون نفسه في المناظرة العسكرية التي شارك فيها وأذاعتها قناة (بي بي سي) عندما سُئِل عن أهم مفاجأة كانت في حرب أكتوبر؛ فكان جوابه: إن مفاجأة الحرب الحقيقية كانت في نوعية المقاتل المصري الذي واجهته إسرائيل طوال أيام الحرب! وهو الأمر الذي احتاج شارون إلى كلِّ محاولاته الفاشلة -التي ذكرناها-، وإلى كلِّ هذا الكم من الخسائر الفادحة في العتاد والأرواح التي ألحقها بقواته لاستيعابه!