الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 08 ديسمبر 2022 - 14 جمادى الأولى 1444هـ

الوصايا النبوية (13) الحث على أكل الحلال (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الإشارة إلى فضل الوصايا النبوية (مقدمة الخطبة الأولى).

- وصية اليوم: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ(1) لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون: 51)، وقالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!) (رواه مسلم).

- شرح مجمل للوصية ثم التفصيل في عناصر: قال العلماء: بعد أن بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله لا يقبل إلا طيبًا، وأن المرسلين والمؤمنين أمروا بالأكل مِن الطيبات، بيَّن أن مِن الناس مَن يخالف هذا المسلك، فلا يكون أكلة طيبًا، بل يعمد إلى اكتساب الحرام واستعماله في جميع شئونه من مأكل وملبس وغذاء، وأن ذلك من أسباب عدم قبول دعائه، مع كونه أتى بأسباب قبول الدعاء، وهي في هذا الحديث أربعة: السفر مع إطالته، وكونه أشعث أغبر، وكونه يمد يديه بالدعاء، وكونه ينادي الله بربوبيته مع الحاحه على ربه بتكرار ذلك، ومع ذلك لا تحصل الإجابة، لوجود مانع عظيم، وهو أكل الحرام.

الحث على أكل الحلال الطيب:

- أمر الله بأكل الحلال الطيب (الأمر في الوصية): قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172)، وقال -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (المائدة: 4)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ?) (البقرة: 168)(2).

- وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأكل الحلال: (وصية اليوم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَتَصَدَّقُ أحَدٌ بتَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، إلَّا أخَذَها اللَّهُ بيَمِينِهِ، فيُرَبِّيها كما يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أوْ قَلُوصَهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ، أوْ أعْظَمَ) (متفق عليه).

- من أقوال السلف في الحث على أكل الحلال: قال سهل بن عبد الله: "النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-" (تفسير القرطبي)، وقال وهيب بن ورد: "لَوْ قُمْتَ قِيَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ بَطْنَكَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ" (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبو نعيم الأصبهاني)، وقال بعضهم: "الحجر المغصوب في البناء أساس الخراب" (كتاب اللطائف لابن الجوزي).

عاقبة أكل الحرام:

- لقد شاع أكل الحرام في هذا الزمان، حتى تنافس الناس في طرقه ووسائله، دون مبالاة بعاقبته(3): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ) (رواه البخاري).

- أكل الحرام من أعظم أسباب هلاك الانسان في الدنيا والآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ... ) وذكر منها: (وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ) (متفق عليه).

بعض آثار وعواقب أكل الحرام:

لا يقبل الله دعاءه: ففي وصية اليوم: (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!) وقال بعض السلف: "لَا تَسْتَبْطِئِ الْإِجَابَةَ وَقَدْ سَدَدْتَ طَرِيقَهَا بِالذُّنُوبِ" (سير أعلام النبلاء للذهبي)، وعن وهب بن مُنبِّه قال: "من سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته" (جامع العلوم والحكم)، وروي في الحديث: "يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ؛ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ" (رواه الطبراني باختلاف يسير، وحكمه ضعيف).

- محق البركة في حالة وماله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) (البقرة: 276)، و(وهكذا في كل عمل محرم وكسب محرم).

- استجلاب غضب الجبار سبحانه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن حَلَفَ علَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ وهو عليه غَضْبانُ) (متفق عليه).

- وأعظم آثار أكل الحرام استحقاق النار: ففي سنن الترمذي بإسناد صحيح، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌يَا ‌كَعْبَ ‌بْنَ ‌عُجْرَةَ، ‌إِنَّهُ ‌لَا ‌يَرْبُو ‌لَحْمٌ ‌نَبَتَ ‌مِنْ ‌سُحْتٍ ‌إِلَّا ‌كَانَتِ ‌النَّارُ ‌أَوْلَى ‌بِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وفي رواية أحمد: (يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ ‌لَا ‌يَدْخُلُ ‌الْجَنَّةَ ‌لَحْمٌ ‌نَبَتَ ‌مِنْ ‌سُحْتٍ ‌النَّارُ، ‌أَوْلَى ‌بِهِ) (رواه أحمد، وقال محققو المسند: إسناده قوي).

الصالحون يتحرون الحلال الطيب:

- الصالحون ينظرون أدق النظر فيما يتكسبونه ويدخلونه بطونهم وبطون أهليهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِنِّي ‌لَأَنْقَلِبُ ‌إِلَى ‌أَهْلِي، ‌فَأَجِدُ ‌التَّمْرَةَ ‌سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيَهَا) (متفق عليه)، وعن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عنْها- قالت: "كانَ لأبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ له الخَرَاجَ، وكانَ أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِن خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بشَيءٍ، فأكَلَ منه أبو بَكْرٍ، فَقالَ له الغُلَامُ: أتَدْرِي ما هذا؟ فَقالَ أبو بَكْرٍ: وما هُوَ؟ قالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ، وما أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إلَّا أنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فأعْطَانِي بذلكَ؛ فَهذا الذي أكَلْتَ منه. فأدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شيءٍ في بَطْنِهِ" (رواه البخاري).

الصالحون يجنون ثمار تحريهم أكل الحلال، واجتنابهم أكل الحرام:

- لقد كانت المرأة في السلف الصالح حريصة ألا تأكل هي وأبناؤها إلا الحلال؛ خوفًا من هذا الحديث، فكانت الواحدة منهن توصي زوجها وهو ذاهب إلى عمله قائلة: "يا أبا فلان، إننا نصبر على ألم الجوع، ولا نصبر على ألم عذاب الله؛ فاتقِ الله فينا".

- تعففوا عن الحرام فأغناهم الله من فضله -المبارك والد الإمام عبد الله بن المبارك-: "كان المبارك عبدًا رقيقًا أعتقه سيده، ثم اشتغل أجيرًا عند صاحب بستان، وفي ذات يوم خرج صاحب البستان مع أصحاب له إلى البستان، وقال للمبارك: ائتنا برمان حلو فقطف رمانات، ثم قدَّمها إليهم، فإذا هي حامضة، فقال صاحب البستان: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ قال لم تأذن لي إن آكل حتى أعرف الحلو من الحامض، فقال له: أنت من كذا وكذا سنة تحرس البستان وتقول هذا! وظن أنه يخدعه، فسأل الجيران عنه، فقالوا: ما أكل رمانة واحدة، فقال له صاحب البستان: يا مبارك ليس عندي إلا ابنة واحدة فلمن أزوجها؟، فقال له: اليهود يزوجون للمال، والنصارى يزوجون للجمال، والعرب للحسب، والمسلمون يزوجون للتقوى، فمن الأصناف أنت زوج ابنتك للصنف الذي أنت منه، فقال: وهل يوجد أتقى منك! ثم زوَّجه ابنته".

ومن هذا البيت العفيف خرج الإمام عبد الله بن المبارك الذي كان يقول: "أَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفٍ حَتَّى بَلَغَ سِتُّمِائَةَ أَلْفٍ" (الورع لابن أبي الدنيا).

- تعففوا عن الحرام فبورك في الذرية "والد الإمام البخاري": عن أحمد بن حفص قال: دخلت على أبي الحسن -يعني إسماعيل والد الإمام البخاري- عند موته، فقال: "لا أعلم من مالي درهمًا من حرام، ولا درهمًا من شبهة"، قال أحمد: فتصاغرت إليَّ نفسي عند ذلك، وقلتُ: وصلاح الآباء ينفع الأبناء؛ كما قال -تعالى-: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (الكهف: 82) (حجية السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي).

- وقد ذُكِر أن جنيدًا البغدادي -رحمه الله- جاء يومًا إلى داره فرأى جارية جاره ترضع ولده، فانتزع ولده منها، وأدخل أصبعه في فيه (فمه) وجعله يتقيأ كل الذي شربه، فلما سُئِل، قال: جاري يأكل الربا، يأكل الحرام، وجارية جاري تعمل عنده فهي تأكل الحرام، وجارية جاري ترضع ولدي فهي ترضع ولدي الحرام، ورسول الله -عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام- يقول: (لا يربو لحمٌ نبتَ من سحتٍ إلَّا كانتِ النَّارُ أولى بِهِ ". (رواه الترمذي: (614)، وصححه الألباني).

- فيا عبد الله، إذا كنت لا تبالي بمثل هذا الوعيد؛ فهلا راعيت فلذات كبدك، وتحريت الحلال من أجلهم!

خاتمة:

- تذكر -يا عبد الله- دائمًا مع إعداد الجواب أن أحد الأسئلة الإجبارية يوم القيامة عن كسبك: أمن الحلال أم من الحرام؟ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌لَا ‌تَزُولُ ‌قَدَمَا ‌عَبْدٍ ‌يَوْمَ ‌القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- تذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال في الحديث الصحيح: (اتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ -تعالى- لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

- تذكر قول الله -تعالى-: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) (المطففين: 1)، (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (المطففين: 4-5).

فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال القاضي: الطيب صفة الله -تعالى-، بمعنى المنزه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث (شرح مسلم للنووي).

(2) يأتي هنا السؤال: ما مناسبة ذكر اتباع خطوات الشيطان بعد الأمر بأكل الحلال؟ الجواب: أن الانسان إذا كان كسبه من حرام فسد كلُّ حاله؛ فطعامه وشرابه سيكون من الحرام، ونكاحه سيكون من الحرام، وحجه، إلخ.

(3) يحسن الإشارة إلى بعض الأعمال والوظائف التي يكون كسبها حرام، مثل: المؤسسات الربوية - الغش في البيع - بيع المحرمات - الموظفون المتهربون من أعمالهم - المقاهي والملاهي وقاعات الافراح المصحوبة بالمحرمات - بيع ملابس المتبرجات - حلاق السيدات - إلخ.