كتبه/ مصطفى حلمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان الفضيل بن عياض رحمه الله "إذا ذكر الله، أو ذكر عنده أو سمع القرآن، ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه مَن يحضره!"، ولكن الحزن لم يستغرقه كله -كشأن الملامتية في خراسان فيما بعد-؛ لأنه تحدَّث عن المحبة التي تربط العبد بربه، ومن علاماتها: التقرب إليه بالنوافل، وقيام الليل بصفة خاصة؛ فهو يعبِّر عن ذلك بما يرويه، أو يتصور أنه كذلك مِن أنه حديث عن الله؛ يقول الله تعالى فيه: "كذب مَن ادعى محبتي، وإذا أتى الليل نام عني؛ أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه؟! ها أنا مطلع على أحبائي، إذا أجنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم ومثلت نفسي بين أعينهم!".
ويلخص نظرية المحبة الإلهية في عبارة موجزة يستحضرها من حديث النبي ?: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله"، فيصبح الحب خالصًا لله لا لغرض آخر، وعلى العكس، يكون البغض بسبب المعاصي التي يبغضها الله؛ لا بسبب التنافس على متاع الدنيا.
ولما رسخ في قلبه هذا المبدأ -أي: الحب في الله والبغض في الله-، تجاسر على الوقوف أمام الرشيد آمرًا له بالمعروف، وناهيًا عن المنكر، غير هياب ولا وجل، بل وعظه في صيغة ساخرة، لكنها ذات دلالة عميقة؛ قال له الرشيد: (ما أزهدك! فأجابه الفضيل بقوله: أنت أزهد مني؛ لأني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة، وأنت زهدت في الآخرة!).
وهكذا ينقد الخليفة بكياسة، وبأسلوب صريح، ولكنه لين يحمل في طياته الكثير من المعاني.
وفي مرة أخرى حينما استدعت المصارحة ألا يختفي وراء الأسلوب اللين في المخاطبة، كان شديدًا في حديثه للرشيد، فقال له: (إن الله لم يجعل أحدًا من هؤلاء فوقك في الدنيا؛ فأجهد نفسك ألا يكون أحد منهم فوقك في الآخرة).
ثم ينصحه بالكدح لنفسه، والعمل في طاعة ربه، ويشتد أيضًا في إحدى المرات عليه حتى يبكيه!
وكان القرآن هو المعين الذي يغترف منه الفضيل بن عياض، يقرأه وينظر في آياته، ويستخلص منها الأسس النظرية لحياته الروحية؛ إنه يجد ضرورة الإخلاص في العمل لقوله تعالى: "ليبلوكم أيكم أحسن عملًا"، فيفسرها بأن العمل ينبغي أن يتوافر في كلٍّ من الصواب والإخلاص، فإن فقد إحدى الصفتين لم يقبل، فالخالص هو أن يكون لله، والصواب هو اتفاقه مع السنة.
وحرص الفضيل على متابعة الرسول صلوات الله عليه وصحابته والتابعين عندما أوضح المبادئ الأخلاقية التي يرى التمسك بها، فهي بعد الإيمان وأداء الفرائض (صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، ووفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة)، ولما سئل عما إذا كان هذا مِن رأيه، أجاب: مِن السابقين أهل الفضل والفقه.
وقد ظل متأثرًا أشد التأثير بالسابقين؛ لأنه أدرك -كما يخبرنا- خير الناس، كلهم أصحاب سنة؛ ولهذا فهو يرى تعظيم شأنهم، وأن البلاد تحيا بهم، فهم حزب الله إذ يقول: (إن لله عبادًا تحيا بهم البلاد، وهم أصحاب السنة، وكل منهم يعقل ما يدخل جوفه، ومن كان كذلك كان في حزب الله عز وجل).
ولزاهدنا رأي في الربط بين المعصية والمعاناة في الحياة اليومية، فيذهب إلى أنه عندما يعصي العبد الله، يستطيع أن يرى أثر ذلك في خلق امرأته، وخادمه، وحماره بل فأر بيته أيضًا!
وكأنه قبل موته ألهم بالأحداث التي ستهب على المسلمين بعده، ولن يستطيع التصدي لها -كما فعل مع أهل الإرجاء-؛ إذ ظهر بعد موته القول بخلق القرآن، وكان يتخوف أثناء حياته من موت الرشيد، ويلهم بما سيحدث بعده، فهو يقول: (طوبي لمن مات على الإسلام والسنة)، ثم بكي على زمان تظهر فيه البدعة، فإذا كان ذلك كذلك، فأكثروا من قول ما شاء الله.
وظلت شخصية الفضيل مؤثرة في أصحابه الذين رأوا فيه ارتباط النظر بالتطبيق، فكان عبد الله بن المبارك يقول عنه: (إذا نظرت إلى الفضيل، جدد لي الحزن، ومقتُّ نفسي!).