الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 31 أغسطس 2022 - 4 صفر 1444هـ

الفضيل بن عياض (1)

كتبه/ مصطفى حلمي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلن نحاول التَّعَرُّض لمدى صحة الرواية التاريخية التي تتردد في أغلب المصادر عن سابق حياة الفضيل بن عياض، حيث كان شاطرًا يقطع الطريق، ولكننا نميل إلى القول بأنها تحمل في طياتها حبكة فنية، يحتمل معها تعمد الوضع بواسطة الصوفية، لا سيما وهي تصوره وهو ينصت لقارئ يقرأ: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق"، وقد أوى إلى مكان يبيت فيه فوجد أناسًا يتكلمون عنه، وأنهم يخشون أن يقطع الطريق عليهم، وبعد أن ينصت إليهم وهم يعبِّرون عن خوفهم منه، يستيقظ من غفلته على أصواتهم وهم يتشاورون فيمَ يفعلون لاتقاء شروره! وهنا يعلن توبته: "اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام".

وربما وَجَدتْ هذه القصة آذانًا صاغية؛ لأنها تتفق في السياق مع ما اشتهر به الفضيل من شدة خوفه وبكائه كلما أنصت إلى آيات الله تتلى عليه. 

والذي يعنينا -مع افتراض صحة هذه الواقعة- هو دراسة مذهبه في الزهد؛ لأنه احتل مكانًا بارزًا بين الشيوخ السلفيين، إذ يصفه ابن تيمية بأنه (سيد المسلمين في وقته)، ووصفه ابن حجر العسقلاني بأنه الزاهد الخراساني، فنشأته إذًا كانت بخراسان. 

وذكر ابن كثير بأنه قَدِم الكوفة وهو كبير، فهل مال إلى الطابع الخراساني أم غلبت عليه سمة الكوفيين؟ سينجلي الأمر أثناء بحثنا. 

سمع الفضيل الحديث بالكوفة بعد أن انتقل إليها من مسقط رأسه خراسان، وتدل الأقوال الكثيرة التي أوردها ابن حجر العسقلاني أن رجال الحديث عدوه مِن الثِّقَات، واتفقوا على أنه كان فاضلًا عابدًا ورعًا، كما نقل لنا نصًّا على لسان عبد الله بن المبارك يصفه فيه بأنه أورع الناس، وأنه ما بقي على ظهر الأرض أفضل عنده من الفضيل عياض.

وكون الزاهد الكبير من رجال الحديث يدلنا على تمسكه بالسنة، ونهيه بشدة عن الأخذ من أصحاب البدع أو الاختلاط بهم؛ قال الفضيل: "صاحب بدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه؛ فإنه مَن جلس إلى صاحب بدعة أورثه الله العمى"، وهو يقصد بأهل البدع: الطوائف المخالفة للسنة، ومنهم: المرجئة الذين قالوا: أن الإيمان إقرار بلا عمل، فيعتبر ذلك منهم مخالفة للنصوص، حيث ينص الحديث على أن: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"، فهو يستند في دفاعه عن الأثر ويتمسك بنص الحديث.

وإذا كان الفضيل قد اتصف (بالورع الدائم والخوف الوافر والبكاء الكثير)، فإن ذلك لا يعدو كونه ارتباطًا بالأئمة السابقين، فإن ظاهرة الخوف واضحة عند الخلفاء الراشدين، وعند أمثال أبي الدرداء، وأويس القرني، والحسن البصري؛ بسبب الخشية من الله، وتذكرهم الدائم للموت، والمنتظر بعده.

فليس الفضيل إذًا بدعًا حين نراه إذا ما خرج في جنازة يعظ ويذكر ويبكي، حتى يصل إلى المقابر "فيجلس مكانه بين الموتى، من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة!"؛ هذا هو التفسير الأقرب للصحة لشدة حزنه؛ إذ إن المرحلة الزمنية التي عاش فيها، تسبق بكثير عصر ظهور الملامتية في خراسان.

ثم إن الفضيل -كمحدث- كان يرتبط بالزهاد من أهل الحديث أوثق ارتباط؛ كسفيان الثوري الذي روى عنه، وصحبته لكلٍّ مِن سفيان بن عيينة، وعبد الله بن مبارك. 

ولا ننسى المصدر الإسلامي الأول، وهو: القرآن العظيم: الذي انعكس أثره عليه بعمق عند بداية اتخاذه طريق التوبة؛ فقد استجاب لوقع الآيات القرآنية في نفسه، وكان متأثرًا بها في أطوار حياته، فلم يتخلَّ عن الخوف والرهبة كلما سمع القرآن يُتَلى عليه، فإذا ما أنصت إلى الآية: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" أصابته الرعدة، وأرقته الخشية من التقصير في أداء حقِّ ربِّه عليه فيقول: "الويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم أُلهم حجتي!".

وللحديث بقية إن شاء الله.