الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 15 مايو 2022 - 14 شوال 1443هـ

أحداث معركة القادسية (12)

كتبه/ أحمد فريد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي اليوم الثالث طلب رستم التفاوض من جديد؛ مما يدل على خوف رستم واستماتته في محاولة ثني جيش العرب المسلمين عن قتاله، فدخل عليه المغيرة رضي الله عنه لكي يهين الفرس قليلًا بطريقته الخاصة، وعلى الرغم من أن المغيرة رضي الله عنه يتقن الفارسية؛ إلا أنه لم يتكلم معهم إلا بلغته العربية "لغة القرآن"، فدخل عليه المغيرة بن شعبة وقد ترك فرسه بالخارج، ففرح رستم وظن أنه سيحظى بقليل من الاحترام هذه المرة، ولن يكون هذا الرسول كسابقيه من الرسل!

إلا أن ظن رستم سرعان ما خاب، فقد ظلَّ المغيرة يمشي في مجلس الفرس حتى وصل إلى مكان جلوس رستم، فما كان من المغيرة إلا أن جلس على السرير المذهب الخاص برستم، فتعجب الفرس من صنيعه وحاولوا أن يسحبوه من مكانه؛ إذ إن عنجهية الفرس وعنصريتهم تقصي بأن يقف الجميع بعيدًا على مسافة مِن رستم، وذلك حتى لا يلوثوا الهواء من حول سيدهم!

فقال لهم المغيرة: والله جلوسي جنب أميركم لم يزدني شرفًا، ولم ينقصه شيئًا، والله يا أهل فارس، إنا كنا تبلغنا عنكم الأحلام (أي: نسمع عنكم أنكم عقلاء)، ولكني أراكم أسفه قوم! والله الآن أدركت أن أمركم مضمحل، وأن أمر الغلبة والملك لا يقوم على مثل ما أنتم عليه.

فسمع المغيرة رضي الله عنه الحاشية مِن خلفه وهي تقول بالفارسية التي كان يتقنها: والله صدق العربي.

ثم قال المغيرة لرستم: نحن ندعوك إلى واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن أبيت فالسيف.

فقال له رستم: وكيف يدفع المرء الجزية وهو صاغر؟

فقال له المغيرة رضي الله عنه: أن يقوم أحدكم على رأس أميرنا فيطلب منه أن يأخذ الجزية، فيحمده أن قبلها، فكن يا رستم عبدًا لنا تعطينا الجزية، فنكف عنك ونمنعك.

وما إن سمع رستم من المغيرة: "كن عبدًا لنا" حتى جن جنونه، ولم يعد باستطاعته أن يتحمل أكثر من هذا، هذه الإهانات المتكررة من فرسان العرب؛ فاستشاط غضبًا، واحمرت عيناه، وقال للمغيرة: والله ما كنت أظن أن أعيش حتى أسمع هذا الكلام من عربي، ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصباح حتى يدفنهم في القادسية، ثم قال له: ارجع إلى قومك، لا شيء لكم عندي، وغدًا أدفنكم بالقادسية.

فرجع المغيرة، وأثناء مروره على القنطرة، أرسل رستم رجلًا يناديه فنظر إليه فقال له: منجم، يقول: إنك تفقأ عينك غدًا (وذلك في محاولة لكسر همة المغيرة وإخافته).

فتبسم المغيرة رضي الله عنه، وقال لذلك الفارسي: والله لولا أني أحتاج الأخرى لقتال أشباهكم، لتمنيت أن تذهب الأخرى في سبيل الله.

وبعد هذه المفاوضات التي أذل بها أسود العرب قادة الفرس، جاء الوقت لبدء العملية العسكرية الحاسمة؛ التي سيخلدها التاريخ؛ لكونها جعلت من شيء اسمه الإمبراطورية الفارسية مجرد ذكريات في صفحات التاريخ المنسية!

كانت أرض القادسية أرضًا يحف بها من الشرق خور الفرات، ويشتمل على تركة العتيق أو نهر العتيق، ويحيط بها من الغرب خندق سابور، وهو عبارة عن غدير حفر لحماية أرض السواد من عرب البادية، وقد أقيم عليها عددٌ من المسالح لهذه الغاية، وقد اختار القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مكانًا إستراتيجيًّا للغاية، فقد كان المثنى بن حارثة رضي الله عنه قد بعث برسالة إلى عاصمة الخلافة قبل موته، يوصي بها جيوش المسلمين مستقبلًا بأن يحاربوا الفرس على أطراف الصحراء؛ لما يتيحه ذلك من سهولة المناورة  للعرب، الذين يخبرون الصحراء على عكس الفرس.

وقد تلاقى هذا التوجيه الإستراتيجي مع هوى الفاروق عمر رضي الله عنه، الذي كان يحضر لكي يبعث برسالة للمثنى قبل موته، بها نفس التوجيه الإستراتيجي بمحاربة الفرس، وقد وصف سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أرض القادسية بإحدى الرسائل التي بَعَث بها للخليفة: إن القادسية بين الخندق والعتيق، وإن ما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين؛ أما عن القادسية إلى الولجة فيض من فيوض مياههم.

والقادسية اليوم تقع جنوب مدينة النجف الحالية في العراق، على بعد ثلاثين كيلو متر منها، وما تزال حتى يومنا هذا آثار الطرق بين القادسية والحيرة، والخندق وقصر قديس مركز قيادة سعد رضي الله عنه.