الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 11 أبريل 2019 - 6 شعبان 1440هـ

(إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن ما يقدِّره الله مِن تبدل أحوال الدنيا على أنبيائه وأوليائه هو لحكمةٍ بالغةٍ يَستخرج بها -سبحانه- منهم أنواعًا مِن العبودية لا تحصل إلا بتداول الأيام بين الناس، فيبتليهم؛ ليسمع تضرعهم، ويقدِّر عليهم المحن؛ ليسمع شكواهم إليه.

وعندما أرى أنواع المحن التي يتعرض لها المسلمون أحبُّ أن أسترجع كلماتٍ طيباتٍ وجدتُ بها زمنًا برد اليقين بوعد الله، ولذة الشكوى إلى الله؛ إذ هي عبادة عظيمة، فأحببتُ أن أسترجعها مع إخواني وأبنائي، كلمات حول قوله -تعالى- عن يعقوب -عليه السلام-: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ . قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ . قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (يوسف:84-86)، عسى أن يكون فيها زوال الهموم وشرح الصدور، وتجديد العزيمة، وتحمُّل الأذى والشماتة.

قوله -تعالى-: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ): أعرض يعقوب -عليه السلام- عن أبنائه، وتذكَّر حزنه القديم على يوسف -عليه السلام-، جَدَّدَ له فَقْد الابنين حزن فقد يوسف، بل هو لم يزل موجودًا في قلبه لم يفارقه، ولكن الصبر الجميل منع مِن ظهوره أمامهم، وقد يتعجب المرء مِن أن الخبر بفقد بنيامين کان يناسبه أن يقول: "يا أسفى على بنيامين"، ولكنه قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)؛ فلا شك أن يوسف أحب إليه، ثم إن هذا الموقف ذكَّره بقيمة يوسف -عليه الصلاة والسلام- وقدره، وصفاته الجميلة.

فها هم أحد عشر رجلًا يستطيعون حفظ واحدٍ منهم، فما قدرهم بالنسبة إلى قدر يوسف -عليه السلام-؟!

إن هذه البلايا إنما يقوم لها يوسف -عليه السلام- مقامهم مجتمعين، بل خيرًا منهم بلا شك، ووالله لقد كان؛ فيوسف هو الذي يفرِّج الله به کرب يعقوب في بنيه، ولكنه يفتقده حينما قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، إن فقد الرجال وغياب الكرماء وانعدام الثقات هو الذي يؤلم رعاة البشر؛ الأنبياء وأتباعهم.

وإن هذا المعنى -والله أعلم- هو الذي جعل عمر -رضي الله عنه- عندما صلى بالناس فقرأ هذه السورة، حتى إذا وصل إلى قوله -تعالى- عن يعقوب -عليه السلام- في هذا الموضع: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)، سُمع نحيبه ونشيجه، أي: بكاؤه مِن آخر المسجد، وهو الذي قال: "اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة!"، وقال لجلسائه: "تمنوا"، فيتمنى أحدهم مالًا لينفقه في سبيل الله، ويتمنى الآخر خيلًا يجاهد عليها في سبيل الله، وغير ذلك... فيقول: "لكني أتمني دارًا مثل هذه، فيها رجال مثل أبي عبيدة بن الجراح أستعملهم في أمور المسلمين" -أو كما قال رضي الله عنه-.

إنه والله همٌّ عظيمٌ، وشدة شديدة أن يُفقد الرجال؛ إذا كان في زمان عمر والصحابة -رضي الله عنهم- حوله متوافرون يشكو إلى الله عجز الثقة، بل أعظم مِن ذلك إذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يقول: (إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) (متفق عليه)، فالراحلة التي تصلح للسفر الطويل وحمل الأشياء، أقل مِن واحد بالمائة في الناس؛ فكيف بأزمانٍ انعدم فيها الثقات وغاب فيها العلماء، وعز فيها الكرماء؟! اللهم إليك المشتكى، ويا أسفي على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمثالهم -وما لهم مثيل- وأشباههم وأتباعهم.

ماذا نصنع؟! وكيف نهنأ بالعيش والمسلمون قد تضاعف عددهم بآلاف الملايين وتضاعف كربهم ومحنتهم وبلاؤهم، وعظم الجهل فيهم، وقلَّ العلم فيهم، وتسلط عليهم دعاة على أبواب جهنم مَن أجابهم إليها قذفوه فيها؟! أما يحق لنا أن نبكي على أنفسنا وأهلينا وأبنائنا وأمتنا؟!

إن يعقوب -عليه السلام- لما ضيَّع أبناؤه أخاهم الثاني، تذكر أمانة يوسف -عليه السلام- وکرمه وعلمه وحسن صفاته، فتأسف عليه (يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) شكوي إلى الله -سبحانه- وحزنًا على عدم الراعي الشفيق الرفيق، ومَن يُعد لنوائب الدهر، مع أنه يعلم أنه عن قريبٍ يلقاه، وأن غيابه مؤقت؛ لأنه يعلم مِن الله - مِن وعده الصادق الذي لا يخلف- ما لا يعلمون، يعلم مِن حكمه وجوده -سبحانه-، ويعلم مِن رحمته وفضله ما لا يعلمون، يعلم مِن عزته -سبحانه- وأنه الغالب على أمره، وأنه حسب مَن توكل عليه، وأنه لا يضيع أجر المحسنين، ما يجعله يوقن بقرب لقاء يوسف -عليه السلام-.

فهل نبكي على حالنا وحال أمتنا؟!

نشكو إلى الله همنا وحزننا وبثنا؛ عسى أن يكون في ذلك قرب فرجنا.

فإن كنا لا ندري ما يصنع الله بنا كأفرادٍ أو كجيل، لكننا على يقين مِن أن الأمة لا تموت، وأن الحق منها لا يضيع، وأنه (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ) (متفق عليه)، ونسأله -سبحانه- أن يجعلنا منهم، وأن يجعلنا خطوات على الطريق، ولبنات في البناء؛ إنه هو العليم الحكيم.

وقوله -تعالى-: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي: ذهب ضوؤها، فعمي يعقوب -عليه السلام-، وهذا بلاء جديد، فإنه يأمل ويرجو أن يرى يوسف بعينيه، ذهبت العينان وذهب البصر بسبب الحزن، ولكن الرجاء في الله باقٍ، والصبر قائم، وهذا دليل على أن الحزن لا ينافي الصبر والرضا، فإنه مِن الرحمة بخلق الله -سبحانه- لا مِن السخط على قدر الله.

وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ -يعني ابنه- إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ) (متفق عليه)؛ إنه مقام الرحمة بالخلق وفيض المشاعر الرقيقة الرفيعة، وزوال القسوة التي لا يحبها الله، إن وجود الألم الفطري لا ينافي الرضا عن الله وبالله؛ فضلًا أنه ينافي الصبر، ولكن هذا الألم يذوب في حلاوة الرضا ويفيض الله على القلب ما يغنيه ولا يشقيه، فيكون حزنًا وبثًّا عجيبًا لا يشقى به الإنسان، بل يجد لذة الشكوى إلى الله، والشعور بآثار رأفته وروحه، ويبكي فرحًا، ويشتكي سرورًا، ويتألم ملتذًا!

ووالله إنه لأمر عجيب، لكنه حقيقي؛ قد يصعب وصفه أو يستحيل إدراكه إلا بالوجد والذوق، ولكن إذا تأملت الآيات وجدته والله جليًّا واضحًا، فيعقوب قد صبر الصبر الجميل، وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، أي: ساكت كئيب، لا يشكو أمره وما يجده في صدره إلى مخلوق، وليس حزنه وبثه -أي: همه وغمه- على المستقبل والحاضر، والحزن على الماضي ليس لفوت دنيا ولمجرد فقد ابن، بل قلق على مستقبل أمة وغياب راعٍ شفيقٍ يقوم مقام أمة، وهو مع ذلك لا ييأس من روح الله، ويبث روح الرجاء التي تبدد ظلمات اليأس في بنيه الذين يشفقون عليه مِن الضعف: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا) أي: ضعيف القوة، ويخشون عليه مِن الهلاك: (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)، فيقول لهم واصفًا حقيقة بكائه وحزنه: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:86-87)

إن عبادة الشكوى إلى الله عبادة عظيمة تجلب للقلب أنواعًا مِن الطمأنينة والراحة، والسكون والسعادة، لا يمكن أن يوجد في عبادةٍ غيرها؛ إنها عبادة أداها نوح -عليه السلام- حين شكى إلى الله فقال: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا . وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (نوح:5-?).

وأدَّاها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (اللهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي: إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانًا عَلَيَّ، فَلَا أُبَالِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتُكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي سَخَطَكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلِيَّ غَضَبُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِكَ) (رواه الطبراني والبيهقي، وضعفه الألباني، وإن كانت شهرته تغني عن إسناده، وقد قال الإمام ابن القيم عنه: "عليه نور النبوة").  

إنها عبادة استوقفت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: حين سُمِع نشيجه عند هذه الآية واستوقفته حين كان مع أصحابه، فاستوقفته امرأة عجوز فترك الناس وقام معها فأطال القيام حتى قضى حاجتها فانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبستْ رجالات قريش على هذه العجوز!

قال: ويحك، وتدري مَن هذه؟! قال: لا.

قال: هذه امرأة سمع الله شكواها مِن فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تتصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضى حاجتها، إلا أن تحضر صلاة فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضى حاجتها (وإن كان هذا الأثر منقطعًا، فقد روي مِن غير وجهٍ).

إن عبادة الشكوى إلى الله مِن أجلها قدَّر الله المحنة والبلاء، بل والمعصية والكفر، حتى يَسمع تضرع عباده إليه، ويؤخر إجابة دعوتهم -وقد أجابها-؛ لأنه يحب أن يسمع تضرعهم وشكواهم إليه (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) (الأنعام:43)، فهل وجدت أخي المبتلى مفتاح الكنز الذي معك، وربما لا تدري؟ فهلا فتحت القفل بالمفتاح وأعددت القلب ليفضَى عليه مِن الرحمة ويُسبغ عليه من النعمة؟!

اللهم نشكو ما نزل بنا وبالمسلمين، ونؤمن بك ونتوكل عليك، نرجو رحمتك ونخاف عذابك، فاللهم فرِّج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم استر عورات المسلمين وآمن روعاتهم، وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، اللهم ارحم موتاهم، واشف مرضاهم وجرحاهم، وخفف آلامهم، وارحم أطفالهم وأيتامهم وأراملهم، ورجالهم ونساءهم في كل مكان يا رب العالمين.

وفي قوله -عليه السلام-: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ): استحضار الخصوصية في العلاقة مع الله -سبحانه- والعلم به -عز وجل-، وهذه الخصوصية مِن أعظم الأسباب الجالبة للمحبة والشوق إلى الله -سبحانه-؛ لأنها مِن أعظم النعم والمنن، والحب ينبت على حافات المنن، والشوق يحصل بشهود الفضل والاختصاص، وإذا كان هذا الاختصاص يتعلق بالعلم بالأسماء والصفات والأفعال، فهو أعظم اختصاص واجتباء يفتح الله به على القلب أنواع السكينة والأمن والطمأنينة والراحة مما هو دقيقة مِن نعيم أهل الجنة.

فنسأل الله النعيم الذي لا ينفد، وقرة العين التي لا تنقطع.