الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 11 يناير 2018 - 24 ربيع الثاني 1439هـ

(اللهُمَّ بِكَ خَاصَمْتُ، وإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق أن الله -عَزَّ وجَلَّ- جعل مَن يريد التحاكُمَ إلى العاداتِ والتقاليدِ، أو إلى ما وضعه الكُبَراءُ والأسلاف دون رجوعٍ إلى شرع الله -عَزَّ وجَلَّ- مُسارعًا في الكفرِ، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:41).

وقد جَمَعَ اللهُ المنافقينَ واليهودَ في هذا الوصف؛ لأنهم مشتركون فيه؛ فهم الذين يُسارِعون في الكُفر بعَدَمِ تحكيمِ شرعِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ-، فإنها نزلت في اليهود لما بَدَّلُوا حكم الرجم -لكثرة الزنا في أشرافهم-؛ فتَرَكوا ما أَمَر اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- في التوراة من الرَّجْم، ولا زال الرجم للمُحْصَن الزاني في التوراة والإنجيل إلى يومِنا هذا، ولكنهم تركوا ذلك وبَدَّلُوه إلى عقوبة أَخَفّ هي: الجلد والتحميم، وأن يُفْضَحَا، بأن يُطَاف بهما في الطرقات على حِمَارَين مَقلوبَين!

فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَاءَ يَهُودَ، فَقَالَ: (مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى؟) قَالُوا: نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا، وَنُحَمِّلُهُمَا، وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا، وَيُطَافُ بِهِمَا، قَالَ: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَءُوهَا حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَمَا وَرَاءَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ: وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ، فَرَفَعَهَا فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَرُجِمَا، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ بِنَفْسِهِ. (رواه البخاري ومسلم والسياق له).

فاليهودُ لم يكونوا قد بَدَّلُوا ألفاظ آيةِ الرجم أو حروفَها في التوراة، وإنما تَرَكُوا حُكمَها وشرعوا شريعةً أُخرى خِلافَ حكمَ التوراة، فهذان اثنان مِن الخمسة الذين رجَمَهُم رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حياته، اثنان منهم من اليهود حكمَ فيهم بحُكْمِ القرآن الموافق لحكم التوراة، الذي ما نَسَخه الله -عَزّ وَجَلَّ- في توراةٍ ولا إنجيلٍ ولا قرآن، حتى وُجِد مَن يؤمن بلسانه ولم يؤمن قلبُه مِن الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ففعلوا مثل ما فعل اليهودُ قديمًا! قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) (المائدة:41)، فكان التحريف أن ينسبوا إلى شرع الله -عز وجل- ما ليس فيه بالرغم أنهم أبقوا كتاب الله -عز وجل- على ما هو عليه.

فليس التحريف فقط في تغيير الرسم أو تغيير الألفاظ والحروف، وإنما كذلك في نسبة ما ليس في الشريعة إليها، فإن في ذلك نقضًا لقول المؤمن متابعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ).

(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا) أي: الجلد والتحميم (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) تجد صفات واحدة متكررة عبْر الأزمنة والأمكنة، يسمعون الكذب ويأكلون السحت، وهي الرشوة والربا، وكل ما حرم الله -عز وجل- داخل في ذلك.

(فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ . إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:42-44)، إلى أخر الآيات الكريمات التي تبيِّن لزوم الالتزام بالتحاكم إلى شرع الله -عز وجل-؛ لتتحقق للعبد الإيمان، نسأل الله -عز وجل- الهداية والتوفيق إلى ما يحب ويرضى.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ): يبيِّن غاية المخاصمة، وهي أنها تقف وتنتهي عندما يقبل الناس التحاكم إلى دين الله -عز وجل-، ويلتزمون به، فهنا تزول الخصومة، وهنا يكونون إخواننا في الدين.

وأما من أبَى ذلك فإنه على وصف الكفر والنفاق، وإن كان مِن ذلك ما يكون منه كفر أكبر ينقل عن الملة، ومنه ما هو كفرٌ دون كفرٍ إذا كان مقرًّا بشرع الله -عز وجل-، مقرًّا على نفسه بالذنب، غير آبٍ لشرع الله -عز وجل-، ولا رادٍّ له، ولا ملزِمٍ بالتحكيم والتحاكم إلى غير شرع الله -عز وجل-.

ويجب التنبيه هنا أيضًا: إلى أن هذا في الحكم العام، وأما فيما يتعلق بحكم رِدَّةِ شخصٍ بعينِه فلا بد مِن استيفاء الشروط وانتفاء الموانع حتى تثبُتَ الحُجَّة، فإن الله -عَزّ وَجَلَّ- لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيامِ الحُجَّة.

والحُجَّةُ مِن كتاب الله -عَزّ وَجَلَّ- بَيِّنَةٌ، تُبَيَّنُ لمَن خالف شرع الله -عَزّ وَجَلَّ- وتُوَضَّحُ له، وتُزالُ الشبهاتُ وتُنفَى المعاذير، مِن إكراهٍ، أو جهلٍ، أو تأويلٍ، أو غير ذلك مما قد يقعُ فيه بعضُ مَن يقعُ في هذا الذي نهى الله -عَزّ وَجَلَّ- عنه، وحَذَّر منه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن تحريف الكَلِمِ عن مواضعه لتبديلِ شرع الله -عَزّ وَجَلَّ-.

وإقامةُ الحُجَّة وإزالةُ المعاذير لأهلِ العلم، وليس ذلكَ لآحاد الناس الذين لا يعرفون ما يسوغُ مِن التأويل وما لا يسوغ، وما المَقبولُ مِن أنواع الجهل وما المردودُ، وما يُعذَرُ فيه وما لا يُعذَرُ، وما الذي يُعَدُّ إكراهًا مُعتَبرًا وما لا يُعَدُّ كذلك، فأهل العلم هم الذين يبينون ذلك وهم الذين تُوكَل إليهم هذه الأحكام، وكذا أهل القضاء بشرع الله -عَزّ وَجَلَّ-.

وأما الذي ينشغلُ به المؤمنُ فهو ما يخصه مِن ذلك في حياتِه كُلِّها، فهو دائمًا يُحَكِّمُ شرعَ الله -عَزّ وَجَلَّ-، ويُحاكِم إلى الله -عَزّ وَجَلَّ-، إلى كتابه وإلى سنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويدعو غيره كذلك إلى هذا الأمر، ويلجأ إلى أهل العلم، ليحكموا بينه وبيْن مَن خالفه، بشرع الله -عَزّ وَجَلَّ-، أو يفتوا له بما يستحِقُّ شرعًا فيطالبُ به غيرَه ولو كان ممَن يحكُم بغير شرع الله -عَزّ وَجَلَّ-.

وليس الأمر مقتصرًا على الخصومات التي تصل إلى القضاء أو غير ذلك، بل في كل مسالةٍ وقع فيها اختلاف بيْن البشر، فيما يتعلق بالعقائد والتصورات، أو فيما يتعلق بالقلوب وأحوالِها ومنازِلِها، أو فيما يتعلق بالأعمال والعبادات، أو فيما يتعلق بالمعاملاتِ، فكل مسألةٍ وقع فيها اختلافٌ يكون حالُ المؤمن مع لسانه قائلًا: "اللهُمَّ بِكَ خَاصَمْتُ، وإِلَيْكَ حَاكَمْتُ".

والمؤمن في تحاكُمِه باذلٌ جهدَه، مُستفرغٌ وُسْعَه في أن يُحاكِم نفسَه وخَصْمَه ومُخالفيه في كل شيءٍ؛ في مسائل الاعتقاد والإيمان، وفي مسائل الأعمال والمعاملات، وفي مسائل القلوب وأحوالها ومنازلها، وفي مسائل السلوك والأخلاق، وفي المواقف مِن الأحداث التي تقع حولَه، إلى شرع الله -عَزّ وَجَلَّ- وكتابه، وسُنَّةِ نبيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإجماعِ أهل السُنَّة، وما يتفرَّع على هذه الثلاثِ مِن قياسٍ صحيحٍ أو مصلحةٍ مُعتَبَرةٍ، أو غير ذلك مِن مصادر الأدلة التي يُعرَفُ بها حُكْمُ الله -عَزّ وَجَلَّ-، الحكم العدل الذي أخبر به على ألسنة رُسُلِه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (يوسف:40).

وإنه لمَن الشَّرَفِ للمرء -عند الله وعند اللذين آمنوا- أن تكون تهمتُه وعقوبتُه هي أنه يُحاكِم إلى الله -عَزّ وَجَلَّ- دون حكم الجاهلية، وإنه لينبغي أن يستَصغرَ ما يصيبه مِن البلاء مع عظم هذه النعمة، وإن كان المرء ضعيفًا عاجزًا، قليلَ الصبرِ، فاللهُمَّ لا تُحَمِّلنا ما لا طاقة لنا به، وارزقنا العافيةَ في الدين والدنيا والآخرة.

هذا، ولم يزلْ أهل العلمِ يصيبُهم البلاءُ والمِحْنَةُ بسببِ هذه المسألةِ، وإنَّ قيامهم بها هو مِن شكرِ الله -عَزّ وَجَلَّ- على نعمةِ العلمِ، وإذا رأى المرءُ غيرَه- ممَن هو أقلُّ منه رزقًا في العلمِ والفهمِ- يتحمَّلُ أضعافَ ما يتحمَّلُهُ مِنَ البلاءِ؛ فلا بد أن يلومَ نفسَه على تقصيرِها وجَزعِها واستعجالِها.

فالمؤمنُ متوكلٌ على الله -عَزّ وَجَلَّ- مستعينٌ بالله -عَزّ وَجَلَّ-، يُحاكِمُ إلى شرع الله -عَزّ وَجَلَّ-، وهو في ذلك مُستحضِرٌ وقوفَه بيْن يديِ الله -عَزّ وَجَلَّ- غدًا، فهذه الدنيا سرعانَ ما تزول، وسرعان ما تذهبُ، ولذا كان في تكملةِ هذا الدعاءِ العظيم: (أَنْتَ رَبُّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ).