كتبه/ شحاتة محمد صقر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمِن أمراض القلوب: الشهوة الخفية "حب الزعامة والرئاسة، وحب الشهرة"، وإخفاء بعض الأعمال مِن العوامل المساعدة على تنمية الإخلاص في قلب العبد، والقضاء على هذا المرض الفتاك، والخفاء منهج شرعي وهدْيٌ نبوي، ففي الصدقة قال الله -تعالى-: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة:271)، فهذه الآية ظاهرة في تفضيل صدقة السر وإخفائها.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ) (رواه مسلم)، وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله نموذجان مِن الأخفياء: (رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (متفق عليه).
وقد كان السلف -رحمهم الله- حريصين على إخفاء أعمالهم، ويكرهون الشهرة، ومِن هدْيهم أن يكون للرجل خبيئة مِن عمل صالح لا تعلم به حتى زوجته ولا غيرها!
ومِن أعظم مَن اتصف بتلك الصفة أويسٌ القرني -رحمه الله-، فهو مِن الذين إذا فُقِدوا طُلِبوا، وإذا طُلِبوا هربوا، ومِن العجيب في سيرة هذا الرجل الصالح أنه مع إخفائه لنفسه أبقى الله -سبحانه وتعالى- لنا ذِكْرَه؛ فينبغي أن نقتدي به ونتأثر بسيرته، فهيا نعيش أولًا مع قصته كما رواها الإمام مسلم، مع شرح يسير مِن كلام الإمام النووي، ثم نعيش مع ما فيها مِن دروس تربوية.
عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: (يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ) فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ، قَلِيلَ الْمَتَاعِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: (يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ) فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. (رواه مسلم).
وفي رواية: أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَفَدُوا إِلَى عُمَرَ -رضي الله عنه- وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنَ الْقَرَنِيِّينَ؟ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- قَدْ قَالَ: (إِنَّ رَجُلاً يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، لاَ يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ) (رواه مسلم).
وفي رواية: أنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- يَقُولُ: (إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ وَلَهُ وَالِدَةٌ، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ؛ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ) (رواه مسلم).
(مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ): أَيْ مِنْ بَنِي قَرَنٍ، وَقَرَنٍ بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ. والْفَخْذُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْأَقَارِبِ، وَهُمْ دُونَ الْبَطْنِ، وَالْبَطْنُ دُونَ الْقَبِيلَةِ. (وَفِيهِمْ رَجُلٌ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ): أَيْ يَحْتَقِرُهُ وَيَسْتَهْزِئُ بِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أوَيْسًا كَانَ يُخْفِي حَالَهُ وَيَكْتُمُ السِّرَّ الَّذِي بَيْنَهُ وبين الله -عز وجَلّ- وَلَا يُظْهِرُ مِنْهُ شَيئًا. (إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ): هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ خَيْرُ التَّابِعِينَ. (أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ) هُمُ الْجَمَاعَةُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ يَمُدُّونَ جُيُوشَ الْإِسْلَامِ فِي الْغَزْوِ. "أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ" أَي: ضِعَافِهِمْ وَصَعَالِيكِهِمْ وَأَخْلَاطِهِمُ الَّذِينَ لَا يُؤْبَهُ لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ كَتْمِ حَالِهِ. "رَثَّ الْبَيْتِ": هُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَلِيلَ الْمَتَاعِ، وَالرَّثَاثَةُ: حَقَارَةُ الْمَتَاعِ وَضِيقِ الْعَيْشِ.
إن مَن يتأمل في تلك القصة يجد أن أويسًا القرَنيّ -رحمه الله- كان يمكنه أن يكون ملء السمع والبصر، وحديث الناس في طول البلاد الإسلامية وعرضها؛ فقد زكَّاه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ووصفه بأنه خَيْرُ التَّابِعِينَ، وذكَر بعض أعماله الصالحة مِن بِرّه بأمه، وأنه كان مستجاب الدعوة لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، بل إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد نصح الناس أن يطلبوا منه أنْ يدعو لهم، ونقلَ هذه التزكية الخليفةُ الراشد عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه-، وطلب مِن أويس أن يدعو له استجابةً لأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في ذلك.
ولكن أويسًا -رحمه الله- عندما اشتهر أمرُه بيْن الناس لم تعجبه تلك الشهرة، فآثَر أن يكون بيْن عامة الناس لا يلتفِت إلى أمره أحدٌ، وآثَر أن يكون أمرُ صلاحه وطاعته لله -عز وجل- مخفيًّا لا يعلمه أحدٌ إلا الله -سبحانه وتعالى-، بل رفض أن يكتب عمر -رضي الله عنه- توصيةً بشأنه إِلَى والي الكوفة عندما قرر السفر إليها؛ وذلك حتى لا يُعرَفَ هناك، مع أن هذه التوصية ربما كان أويس في حاجة ماسة إليها بسبب شدة فقره كما يبدو مِن وصف أهل الكوفة لبيته ومتاعه.
لقد فضَّل أويسٌ أن يكون في الناس كالياقوتة النفيسة وسط بعض الرمال والصخور التي قد يكون بعضها عديم الفائدة، ووجود الياقوتة بيْن الرمال والصخور لا يُنقِص مِن قدرها عند مَن يعلم القيمة الحقيقية للياقوت والقيمة الحقيقية للرمال والصخور، والمسلم المخلص يشغله أن يرى الله -سبحانه وتعالى- عملَه ويطّلع على قيمته الحقيقية، فيجزيه عليها الأجر الجزيل في الآخرة، ولا يشغله أن يراه الناس الذين قد لا يَنال منهم خيرًا، بل يتمنى أن لو سَلم مِن أذاهم، وقد لا يحسن بعضُهم التفرقة بيْن الياقوت والرمال والصخور.
إن اليأس مِن رضا الناس وثنائهم شِيمة العاقلين وسجيّة الصالحين، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إني أطمعْتُ نفسي في جوار الله فطمِعَتْ، وأطمَعْتُ نفسي في الحور العين فطمعَتْ، وأطمعْتُ نفسي في السلامة مِن الناس فلم تطمَعْ؛ إنِّي لما رأيتُ الناس لا يرضون عن الله علمْتُ أنَّهم لا يرضون عن مخلوقٍ مثلهم!".
ومِن الأقوال الحكيمة قول الإمام الشَّافِعِيُّ: "رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ؛ فَعَلَيْكَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِكَ فَالْزَمْهُ، وَدَعْ مَا سِوَاهُ وَلَا تُعَانِهِ"، وقول أحد الصالحين: "رضا الناس غاية لا تُدرَك، ورضا الله غاية لا تُترَك؛ فاترُكْ ما لا يُدرَك وأدرِكْ ما لَا يُترَك".
وعمر -رضي الله عنه- في هذه القصة يعطينا بتواضعه درسًا تربويًّا عظيمًا؛ فقد حَرصَ -وهو مَن هو- على لقاء أويس، وحَرصَ على أن يدعو له أويس، وأشاع بيْن الناس ثناء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على أويس، فلن يُنقِص مِن قدْر عمر أن يرفع الله -سبحانه- قدْرَ أويس، ولن يُنقِصَ من قدْر الشيخ أو المربي ارتفاعُ قدْر تلاميذه، وهذا يذكرنا بالراهب في قصة "أصحاب الأخدود" عندما قال لتلميذه الغلام: (أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي) (رواه مسلم)، فالتوريث الدعوي أمرٌ يحتاج إلى إعداد كوادر، وتربيتها وتأهيلها حتى تكون قادرة يومًا ما على تحمل المسئولية.
ويجدر التنبيه هنا إلى: أن إخفاء المسلم لعمله الصالح لا يعني تقصيره في الأعمال الظاهرة: كصلاة الجماعة، والدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- ولو مِن فوق المنابر؛ فتأمل كيف أنّ حِرْص أويس -رحمه الله- على إخفاء عمله الصالح وتجنُّب الشهرة بيْن الناس، لم يمنعه مِن أن يقوم بالأعمال الصالحة الظاهرة، فقد خرج مِن بلده اليمن مجاهدًا في سبيل الله -عز وجل-.
اللهم ارزقنا الإخلاص، وانصرنا على أنفسنا، وطَهِّرْ قلوبنا، وحبِّبْ إلينا الإيمان وزيِّنْه في قلوبنا، وكَرِّهْ إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا مِن الراشدين.