الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 26 يوليه 2008 - 23 رجب 1429هـ

حول فهم كلام للإمام الحميدي في الإيمان

السؤال:

علمت أن الإيمان عند أهل السنة قول وعمل، وهناك من قال إنه لا قول إلا بعمل ومن لم يعمل فهو كافر وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه.

وذلك مثل الأثر الذي رواه الالكائي والخلال في السنة وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان عن حنبل بن إسحاق قال: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: إن من أقر بالصلاة والصوم والزكاة والحج ثم لم يفعل من ذلك شيئاً فهو مؤمن.... إلى أن قال: هذا الكفر الصراح وذكر قول الله -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(البينة:5). وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله وردَّ على الله ما أمر به وعلى الرسول ما جاء به...

وكذلك قال مثل ذلك محمد بن الحسين الآجري -رحمه الله- في كتاب الشريعة، وقال ذلك جمع من أهل العلم فتبين من ذلك أن العمل شرط لصحة الإيمان أو ركن فهو داخل في مسمى الإيمان وماهيته، ولكن البعض يقول إن العمل شرط في كمال الإيمان، وذكروا أن القول السابق ليس من مذهب السلف والقائلين بالقول الأول قالوا: إن القول الثاني هو قول مرجئة الفقهاء.

فما رأي فضيلتكم أرجو الرد والإيضاح.

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

سياق كلام الحميدي كما نقله شيخ الإسلام "الإيمان 7/209" هو: (وَقَالَ حَنْبَلٌ: حَدَّثَنَا الحميدي قَالَ: وَأُخْبِرْت أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ أَقَرَّ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَتَّى يَمُوتَ وَيُصَلِّيَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَمُوتَ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا إذَا عَلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ ذَلِكَ فِيهِ إيمَانُهُ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْفَرَائِضِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَقُلْت:هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ وَخِلافُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الآيَةَ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَرَدَّ عَلَيه أَمْرِهِ وَعَلَى الرَّسُولِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ).

فلو أكملت كلام الحميدي وفهمته بدلاً من هذا الاختصار المخل الموهم لما وقعت في هذا الاضطراب (أعني الذي نقل هذا الكلام)، فالعبارة المحذوفة هنا وهي: (إذَا عَلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ ذَلِكَ فِيهِ إيمَانُهُ) تبين المقصود، فقول الحميدي هنا وما شابهه من أقوال السلف عن المرجئة الإباحية الذين يرون الواجب هو الإقرار المجرد دون العمل، فحقيقة قولهم أن العمل المجمع على فرضيته ليس بفرض طالما نطق اللسان بأنه فرض. فهم يقولون: يلزمنا أن نقول إنه فرض، ولا يلزمنا العمل. ويرون في ذلك الإيمان كله؛ لأن الإيمان عندهم شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.

يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل لا على إيمان خال من العمل، فإذا عرف أن الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون نزاعًا لفظيًا، مع أنهم مخطئون في اللفظ مخالفون للكتاب والسنة، وإن قالوا: إنه لا يضره ترك العمل. فهذا كفر صريح. وبعض الناس يحكى عنهم أنهم يقولون: إن الله فرض على العباد فرائض، ولم يرد منهم أن يعملوها ولا يضرهم تركها، وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، ولكن ما علمت معينًا أحكي عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب، ولا يعينون قائله، وقد يكون قول من لا خلاق له، فإن كثيرًا من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا»أ.هـ ( 7/181)

وهذا الكلام من شيخ الإسلام -رحمه الله- يوضح لك حقيقة من كفرهم الحميدي وغيره من المرجئة، وهم الذين يقولون: إن الواجبات المفروضة لا يلزم العمل بها إنما المطلوب القول والاعتقاد، فهم يرون العمل المعلوم من الدين بالضرورة وجوبه لا يلزم عمله وإنما اللازم القول. وهذا نص السؤال الذي وجه للحميدي رحمه الله.

كذا كلام الآجري هو في الرد على المرجئة القائلين: إنه يكفي القول عن العمل.

فيقولون لهم: لا يجزئ القول عن العمل. وهذا حق لكن لا يلزم من ذلك تكفير تارك العمل الذي يعتقد وجوبه، ويعتقد أنه آثم بترك العمل مستحق للعقاب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان(7/403): "والرازي لما صنف "مناقب الشافعي" ذكر قوله في الإيمان، وقول الشافعي قول الصحابة والتابعين، وقد ذكر الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين ومن لقيه- استشكل قول الشافعي جداً، لأنه كان انعقد في نفسه شبهة أهل البدع في الإيمان: من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية وسائر المرجئة وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم. والجواب عما ذكروه هو سهل، فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء.
والشافعي مع الصحابة والتابعين وسائر السلف يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء، فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعاً مع الذنوب، لكن يقولون: بقي بعضه، إما أصله، وإما أكثره، وإما غير ذلك، فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه".

والحقيقة أن تكفير تارك المباني الأربعة محل خلاف عند أهل السنة، والجمهور على عدم تكفير التارك المتكاسل دون جحود أو استحلال للترك، وأما باقي الأعمال فلا خلاف عند أهل السنة أنها من الإيمان، ولكن لا يزول الإيمان بزوالها بل ينقص.

روابط ذات صلة:

- هل الأعمال شرط لصحة الإيمان

- عن الإرجاء ومسائل الإيمان

- العمل شرط صحة أم شرط كمال؟

- الإيمان قول وعمل واعتقاد

- خروج من لم يعمل خيراً من النار

- مسائل في الإيمان والكفر

- اعتقاد أهل السنة في الأعمال

- تفصيل القول في المرجئة

- التباس في كلام القاضي عياض -رحمه الله-

- عرى الإيمان وشعب الإيمان

- الانفصام بين الفكر والسلوك وظاهرة الإرجاء