الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 19 أبريل 2016 - 12 رجب 1437هـ

"السيسي" ومسئولية الدماء... وماذا لو تحول؟ وهل تضمنونه؟!

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكثير من الناس بصفة عامة -ومن أبناء التيار الإسلامي بصفة خاصة- يتحفظ على ترشيح المشير "السيسي" لرئاسة الجمهورية؛ بسبب الدماء التي سالت في ميداني: "رابعة، والنهضة".

وأنا أقول: إنه بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- تولَّى الخلافة علي بن أبى طالب -رضي الله عنه-، واختلف الصحابة -رضي الله عنهم- في مسألة أخذ الثأر لعثمان -رضي الله عنه-؛ فلقد طلب معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- ومعه بعض الصحابة أخذ الثأر لعثمان -رضي الله عنه-، وهنا اعتذر إليهم علي -رضي الله عنه- كما قال ابن كثير -رحمه الله-: "فاعتذر إليهم علي -رضي الله عنه- بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا" (البداية والنهاية).

وهنا لابد مِن وقفة مع مسألة الدم: ففي مثل هذه الأمور يصعب أولاً تحديد الجناة، وهذا يحتاج إلى تحقيق واسع للتعرف على الجناة؛ لاسيما مع صعوبة التثبت في أوقات الفتن والفوضى، ثم إن ذلك يحتاج إلى قوة واستقرار في الدولة للقدرة على إقامة القصاص لو ثبتت شروطه، ولكن هذا هو الحماس المذموم الذي أدى بعد ذلك إلى وقوع القتال بين الفريقين في موقعتي: "الجمل" و"صفين"، وكانت النتيجة مقتل عشرات الآلاف من المسلمين، بل ومِن الصحابة الأفاضل -رضي الله عنهم أجمعين-.

وكان الأصوب في هذا الأمر هو ما رآه علي -رضي الله عنه-؛ فإن النصوص قد نصَّت على أن الفئة الباغية هي مَن قاتلت عليًّا -رضي الله عنه-.

فيا ترى... هل هناك مِن بينات تدل على القاتل الذي باشر القتل في ميدان "رابعة "؟!

وهل هناك مِن بينات تدل على الذي أمر بالقتل؟!

ومَن الذي يستطيع أن يجسِّد لنا حقيقة ما حدث في ميدان "رابعة"... ؟!

وفي عهد يزيد بن معاوية قُتِل الحسين -رضي الله عنه- ومعه سبعون من أل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك لم يخرج الصحابة على يزيد بسبب مقتل الحسين -رضي الله عنه- ومَن معه، بل ولم يُحمِّل العلماء يزيدَ مقتل الحسين؛ لأنه لم يأمر بقتله، ولم يرضَ بذلك.

وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- أن يزيد قال: "لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَفْعَلْ مَعَهُ مَا فَعَلَهُ ابْنُ مَرْجَانَةَ -يَعْنِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ-، وَقَالَ للرسل الذين جاؤوا بِرَأْسِهِ: قَدْ كَانَ يَكْفِيكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ دُونَ هَذَا، وَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا، وَأَكْرَمَ آلَ بَيْتِ الْحُسَيْنِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا فُقِدَ لَهُمْ وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عَظِيمَةٍ" (البداية والنهاية).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وجرت في إمارته -يزيد بن معاوية- أمور عظيمة، أحدها: مقتل الحسين، فقد قٌتل -رضي الله عنه- في إمارة يزيد بن معاوية، ويزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين -رضي الله عنه-، ولا أظهر الفرح بقتله... " (مجموع الفتاوى).

ثم كانت وقعة "الحَرة"، والتزم الكثيرون من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلماء المدينة ببيعتهم ليزيد بن معاوية خشية الفتنة واقتتال المسلمين فيما بينهم، واعترض بعض علماء المدينة على خلع يزيد بن معاوية والخروج عليه، ولم يؤيدوا مَن قام بالخروج، وقاموا بنصح إخوانهم واعتزلوا الفتنة، وكان أغلب هذا الرأي من أهل العلم والفقه في الدين، وفي مقدمة هؤلاء الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فقد اشتُهِر عنه إنكاره على الذين رفضوا البيعة ليزيد وسعوا في خلعه، وقد انتهتْ موقعة "الحَرة" بهزيمة أهل المدينة هزيمة ساحقة قُتِل فيها خلق كثير!

ثم تأمل مقتل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وقد كان أميرًا للمؤمنين، ودخلت في طاعته ومبايعته: "الكوفة، والبصرة، ومصر، وخراسان، والشام -معقل الأمويين-"، ولم يبقَ سوى الأردن في عهد عبد الملك بن مروان، وقد قتله الحجاج؛ فماذا كان موقف عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-؟!

عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أَتَى رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي، فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) (الأنفال:39)، فَقَالَ: قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ!" (رواه البخاري).

وعن أبي نوفل قال: "رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ، صَوَّامًا، قَوَّامًا، وَصُولاً لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللهِ لأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لأُمَّةٌ خَيْرٌ" (رواه مسلم).

بل كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يصلي خلف الحجاج، بل وحج معه، وبايع عبد الملك بن مروان، ولم يخرج أو يأمر بالخروج عليه؛ مع أن الحجاج قتل عبد الله بن الزبير وقذف الكعبة بالمنجنيق، وقتل عشرة آلاف من العامة في يوم واحد، لكن ابن عمر كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال؛ لما في ذلك مِن مزيدٍ من سفك الدماء، وإضعاف وحدة الجماعة المسلمة؛ فالعلة ليست في ثبوت "الولاية الشرعية" للحاكم السابق مِن عدمها، ولكن العلة هي سفك الدماء، وأما مسألة "الولاية الشرعية والإمامة"؛ فهي إنما تثبت بإقامة الدين، وسياسية الدنيا بالدين.

وكذلك الإمام الاوزاعي والإمام مالك وغيرهما بايعوا أبا جعفر المنصور مع ما ارتكبه هو وأبو العباس السفاح مِن قتل آلاف الأمويين في دمشق وغيرها، ولم يقل أحد أنهم باعوا دينهم أو خانوا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أو تلوثت أيديهم بالدماء، وهكذا الحال في أمر الدماء فاعتبروا يا أولى الألباب.

ثم يأتي سؤال يتردد على بعض الألسنة، وهو: هل تضمن "الدعوة السلفية" المشير "السيسي" بعد فوزه، وأنه لن يتحول كغيره؟! ثم ماذا لو تحول السيسي بالفعل؟ هل يأثم مَن رشحه ودعا إلى انتخابه؟!

أقول: وهل كنا نضمن الدكتور "مرسي" يوم أن انتخبناه ورشحناه للرئاسة؟!

ثم إنه "لا عتاب بعد شورى"، وهذا الأمر يتم بموافقة "مجلس شورى الدعوة السلفية ومشايخها"، وهنا درس بليغ مِن "غزوة أُحد" نريد أن نقف معه... فيوم أن نقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعقد مجلسًا استشاريًّا عسكريًّا أعلى، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها، وأنه رأى -صلى الله عليه وسلم- بقرًا يذبح، ورأى في ذباب سيفه ثلمًا، ورأى أنه أدخل يده في درع حصينة، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة.

ثم قدَّم رأيه -صلى الله عليه وسلم- إلى صحابته ألا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها، فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشر مقام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي.

ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول -رأس المنافقين-، وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج، وبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم "بدر"، فأشاروا على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، حتى قال قائلهم: "يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنّا عنهم".

وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعامًا حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة"، وترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأيه أمام رأي الأغلبية، واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر.

ثم صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك، ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العوالي، ثم دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه، وظاهر بين در عين -أي لبس درعًا فوق درع-، وتقلد السيف، ثم خرج على الناس.

وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير -رضي الله عنهما-: استكرهتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الخروج، فردوا الأمر إليه، فندموا جميعًا على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وبدأت المعركة وبدأت شرارة النصر تعلو في الأفق، وكان ما كان بعد ذلك من أمر الرماة الذين خالفوا أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو، غلبت أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون!

أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكَّرهم أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! ولكن الأكثر لم يلقِ لهذا التذكير بالاً، وقالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، ثم غادر أربعون رجلاً من هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسواد الجيش ليشاركوه في جمع الغنائم، وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبقَ فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه، التزموا مواقفهم، مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا.

وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فاستدار بسرعة خاطفة، حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون بالتطور الجديد، فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم -وهي عمرة بنت علقمة الحارثية- فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادى بعضهم بعضًا، حتى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الإمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى.

ثم كانت الهزيمة...

والسؤال: هل علَّق القرآن على قصة الخروج من المدينة أم على أمر الرماة؟!

قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:152).

إذن لم يعلِّق القرآن على قصة الخروج؛ لأنها كانت بشورى بين الرسول والصحابة، ولا عتاب بعد شورى، ولكن العتاب كان على معصية المخالفين للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وحب الدنيا.

ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس مع اليهود وتعاهد معهم مع أن الله -تعالى- أخبره بأنهم لا يوفون بالعهود، وكان هناك احتمال للخديعة، قال -تعالى-: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال:62)، ومع ذلك كان المصلحة تقتضي أن يفعل رسول الله ذلك؛ فأين نحن مِن هذه المعاني؟!

والله المستعان.