الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 20 مايو 2010 - 6 جمادى الثانية 1431هـ

دفع الشبهات حول جمع القرآن الكريم

كتبه/ ياسر عبد ربه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

جمع القرآن الكريم:

المراد بجمع القرآن: يطلق جمع القرآن الكريم ويراد به أحد ثلاثة أنواع:

الأول: جمعه بمعنى حفظه في الصدور واستظهاره.

الثاني: جمعه بمعنى كتابته وتدوينه كله حروفـًا وكلمات، وآيات وسورًا.

الثالث: جمعه بمعنى تسجيله تسجيلا صوتيًا.

ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة تاريخ وخصائص ومزايا، ولذا فسنتناول كل نوع على حدة.

النوع الأول: جمعه بمعنى "حفظه في الصدور واستظهاره":

الدليل: ويشهد لهذا النوع قوله -تعالى-: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ . إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:16-19).

فالمراد بالجمع هنا: الحفظ في الصدور، ويفسره حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ... فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ . إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأُهُ. (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قَالَ: فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا أَقْرَأَهُ" (متفق عليه).

حكمه: حفظ القرآن كله واجب على الأمة، بحيث يحفظه عدد كثير يثبت به التواتر وإلا أثِمت الأمة كلها، وليس هذا لكتاب غير القرآن، وأما الأفراد فيجب على كل فرد أن يحفظ من القرآن ما تقوم به صلاته.

فضله: لم يترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرًا فيه حث على حفظ القرآن إلا وسلكه وأمر به؛ فكان يفاضل بين أصحابه بحفظ القرآن، ويعقد الراية لأكثرهم حفظًا للقرآن، وإذا بعث بعثـًا جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم قراءة للقرآن، ويقدم للحد في القبر أكثرهم أخذًا للقرآن، ويزوِّج الرجل المرأة ويمهرها ما مع الرجل من القرآن، فضلا عن الأحاديث الكثيرة الداعية لحفظ القرآن وتعلمه وتعليمه.

حفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- للقرآن الكريم:

إدراكًا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأمانة الكبرى التي كُلف بها، وهي أن يبلغ الناس القرآن: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) (الأنعام:19)، وإدراكًا منه -عليه الصلاة والسلام- أن تبليغ القرآن يجب أن يكون كما سمعه بلا زيادة ولا نقصان، ولا استبدال لحرف بحرف، أو حركة بحركة؛ لذا فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يشعر بحرج شديد، وخوف عظيم أن يَنسى شيئًا من القرآن، مما جعله يحرك لسانه بالقرآن لحظة نزول الوحي مع شدة وطأة الوحي، وما يعانيه من الجهد والكرب عند نزوله، وما زال -صلى الله عليه وسلم- كذلك حتى نزل عليه قوله -تعالى-: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ . إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).

وقال -سبحانه-: (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (طه:114)، فكان -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا إذا أتاه الوحي أطرق، فإذا ذهب جبريل وجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن مجموعًا في صدره كما وعده الله.

وقد حفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن كله، وحفظه أصحابه، وكان جبريل يعارضه إياه في كل عام مرة، في شهر رمضان، وعارضه إياه في العام الذي توفي فيه مرتين، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي) (متفق عليه)، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقوم بالقرآن ويتلوه آناء الليل وأطراف النهار حتى كادت أن تتشقق قدماه.

حفظ الصحابة -رضي الله عنهم- للقرآن الكريم:

اشتد التنافس بين الصحابة -رضي الله عنهم- في حفظ القرآن الكريم وتلاوته وتدبره، وتسابقوا إلى مدارسته وتفسيره والعمل به، وكانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، وكانوا يهجرون لذيذ المنام ودفء الفراش، ويؤثرون قيام الليل والتهجد بالقرآن، حتى كان يسمع لبيوتهم دوي كدوي النحل لتلاوتهم القرآن.

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحثهم على ذلك، ويحرص على سماع تلاوتهم، فقد قال لأبي موسى الأشعري: (لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) (رواه مسلم).

واستمع لتلاوة سالم مولى أبي حذيفة --رضي الله عنهما- فقال له: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَكَ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

وقال لابن مسعود -رضي الله عنه-: (اقْرَأْ عَلَيَّ). قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: (فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي). فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا) قَالَ: (أَمْسِكْ). فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ" (متفق عليه).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ) (متفق عليه).

والأخبار الكثيرة تشهد على عناية الصحابة -رضي الله عنهم- بالقرآن الكريم وتلاوته، وحفظه، وعلى حثِّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه على ذلك.

فلا عجب أن يكثر عدد حفاظ القرآن من الصحابة، إذا حفظه في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجم الغفير من الصحابة -رضي الله عنهم-.

فمن المهاجرين الذين حفظوا القرآن كله: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن السائب، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة -رضي الله عنهم أجمعين-.

ومن الأنصار: عبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وفضالة بن عبيدة، ومسلمة بن مخلد، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك، وأبو زيد بن السكن -رضي الله عنهم أجمعين-.

شبهة وجواب:

روى البخاري في صحيحه ثلاثة أحاديث:

الأول: عن قتادة قال: "سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ" (رواه البخاري).

الثاني: عن أنس بن مالك قال: "مَاتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. قَالَ: وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ" (رواه البخاري).

الثالث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -فَبَدَأَ بِهِ-، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) (رواه البخاري).

وقد يستدل بهذه الأحاديث على أن الذين يحفظون القرآن هم: عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء.

وهذا يخالف ما هو معلوم أن الذين يحفظون القرآن من الصحابة جم غفير وليس محصورًا بهذا العدد.

والجواب عن هذا الإشكال من وجوه:

الأول: أنه لا يراد بهذه الأحاديث الحصر وإنما يراد به ضرب المثل، ويشهد لهذا أن أنسًا نفسه ذكر في حديث: "أبي بن كعب"، وفي حديث آخر: "أبا الدرداء"؛ فلو كان المراد الحصر لاتفقت الأسماء في الحديثين.

الثاني: أن المراد بالجمع الكتابة لا الحفظ.

الثالث: أن المراد بالجمع حفظه بوجوه القراءات كلها.

الرابع: أن المراد بالجمع تلقيه كله من فم الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

الخامس: أن المراد أنهم هم الذين عرضوه على النبي -صلى الله عليه وسلم- واتصلت بنا أسانيدهم، وأما من حفظه ولم يتصل بنا سنده فكثير.

قال المازري -رحمه الله تعالى-: "وقد تمسك بقول أنس هذا الجماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه، فإنا لا نسلم حمله على ظاهره، سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله ألا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى".

حفظ التابعين ومن بعدهم -رحمهم الله تعالى- للقرآن الكريم:

مر بنا أن الصحابة -رضي الله عنهم- انتشروا في الآفاق الإسلامية والبلدان المفتوحة يُعلِّمون الناس أمور دينهم، ويعقدون حلق التعليم والتدريس في مساجد تلك البلدان، وأقبل عليهم كثير من الناس يتحلقون حولهم، ويتلقون العلم منهم، وصار لبعض هذه المدارس شهرة كبيرة حملت كثيرًا من التابعين على الرحلة إليها، وتلقي العلم من أهلها، كمدرسة ابن مسعود -رضي الله عنه- في الكوفة، ومدرسة أبي بن كعب -رضي الله عنه- في المدينة، ومدرسة ابن عباس -رضي الله عنهما- في مكة، وغيرها من مدارس الصحابة -رضي الله عنهم-.

وكان الصحابة يعلِّمونهم القرآن الكريم ويحفظونهم إياه، ويفسرون لهم معانيه، ويبينون لهم أحكامه، وقد أقبل التابعون على هذه المدارس، فكثر حفاظ القرآن الكريم، ولم يقتصروا على تلاوته، بل حفظوا أوجه قراءته، واشتهر عدد كبير من الحفاظ بالقراءة والرواية.

وتجرد بعض التابعين -رحمهم الله تعالى- للعناية بضبط القراءات وإتقانها، ووضع القواعد لها والأصول حتى صاروا أئمة يُقتدى بهم.

حفظ القرآن الكريم في العصر الحديث:

أما في العصور الحديثة فما زالت المسيرة -والحمد لله- مستمرة، يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم مع تكالب الأحوال على المسلمين، واضطراب المعيشة، ومغريات الحضارة، وتوافر الموانع، وانحسار الدوافع، وما زلنا نرى كثرة حفاظ القرآن الكريم، ونجد إقبالاً لا يخطر ببال، ولا يحلم بمثله أهل كتاب.

فقد انتشرت مدارس تحفيظ القرآن الكريم العديدة، وأنشئت معاهد للقراءات وكليات القرآن في العديد من الدول الإسلامية -والحمد لله-.

خصائص جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور:

ولهذا النوع من الجمع مزايا وخصائص، منها:

- أن جمع القرآن بمعنى حفظه هو أول علم نشأ من علوم القرآن الكريم، وذلك أنه حين نزل الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء، وجرى ما جرى، تلا النبي -صلى الله عليه وسلم- ما نَزل عليه من القرآن على خديجة، وذلك من حفظه، فهو أول علم نشأ من علوم القرآن.

- أنه دائم لا ينقطع- إن شاء الله-، فقد حفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن، وحفظه أصحابه والتابعون ومن بعدهم، وما زال المسلمون يحفظونه إلى أن يأذن الله برفعه؛ بخلاف جمعه بمعنى كتابته فقد مر بثلاث مراحل، آخرها في عهد عثمان -رضي الله عنه-.

- أن الحفظ في الصدور خاص بالقرآن، وليس هناك كتاب يحفظه أهله غير القرآن.

- أنه يجب على كل مسلم أن يحفظ من القرآن ما يؤدي به الصلوات بخلاف جمعه بمعنى كتابته وتدوينه، فلا يجب على كل مسلم.

- الوعيد لمن حفظ شيئًا من القرآن ثم نسيه.

تدوين القرآن الكريم

من أنواع حفظ الصحابة والتابعين لكتاب الله -تبارك وتعالى- بعد حفظه في صدروهم -رضي الله عنهم- جمعه بمعنى كتابته وتدوينه:

جُمع القرآن الكريم بهذا المعنى ثلاث مرات:

- الجمع الأول: في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

- الجمع الثاني: في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.

- الجمع الثالث: في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- .

المراد بالجموع الثلاثة:

وقد يشكل على الذهن كيف يجمع الشيء الواحد ثلاث مرات؛ فإذا كان جمع في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكيف يجمع في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-، وإذا جمع في عهد أبي بكر ثانية فكيف يجمع ثالثة؟!

والجواب:

أنه لا يُراد بالجمع معناه الحقيقي في جميع المراحل، فالمراد بجمع القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- (كتابته وتدوينه)، والمراد بجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- (جمعه في مصحف واحد)، والمراد بجمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه- (نسخه) في مصاحف متعددة.

ويظهر بهذا أن الجمع بمعناه الحقيقي كان في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.

وسنتحدث عن كل مرحلة من مراحل هذا الجمع:

أولاً: جمع القرآن بمعنى كتابته وتدوينه في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

- كُتَّاب الوحي: اتخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عددًا من الصحابة وكان إذا نزل عليه شيء من القرآن أمر أحدهم بكتابته وتدوينه، ويعرف هؤلاء الصحابة بـ"كُتَّاب الوحي" ومنهم: الخلفاء الأربعة، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، ومعاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع، والزبير بن العوام، وعامر بن فهيرة، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الأرقم، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس وغيرهم.

صفة هذا الجمع:

وصف هذا الجمع صحابيان جليلان، فقال زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ" (رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني)، أي: نجمعه لترتيب آياته من الرقاع.

وروى عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من كان يكتبه فيقول: (ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا) (رواه أحمد الحاكم، وحسنه الحافظ ابن حجر).

أدوات الكتابة:

لم تكن أدوات الكتابة ميسرة للصحابة في ذلك الوقت فكانوا يكتبونه على كل ما تناله أيديهم من:

العسب -وهي جريد النخل.

واللخاف: -وهي الحجارة الرقيقة-.

والرقاع: -وهي القطعة من الجلد أو الورق-.

والكرانيف: -وهي أطراف العسب العريضة-.

والأقتاب: -جمع قتب وهي الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه-.

والأكتاف: -جمع كتف وهي عظم عريض للإبل والغنم-.

وكان كُتاب الوحي -رضي الله عنهم- يضعون كل ما يكتبون في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينسخون لأنفسهم منه نسخة.

مميزات جمع القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

- كتب القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الأحرف السبعة، فقد ثبت في السنة نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف، ومما ورد في ذلك حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفيه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (متفق عليه).

- أجمع العلماء على أن جمع القرآن في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مرتب الآيات، أما ترتيب السور ففيه خلاف.

- بعض ما كتب في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- نسخت تلاوته وظل مكتوبًا حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ" (رواه مسلم).

- لم يكن القرآن الكريم في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مجموعًا في مصحف واحد، بل كان مفرقًا في الرقاع والأكتاف واللخاف وغيرها؛ ولهذا قال زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن القرآن جمع في شيء"، وقال أيضًا لما أمر بجمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال".

ولعلك تسأل: لماذا لم يجمع القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مصحف واحد؟

وقد أجاب العلماء -رحمهم الله -تعالى- على ذلك، وذكروا أسبابًا، منها:

- أن الله -تعالى- قد أمَّن نبيه -عليه الصلاة والسلام- من النسيان بقوله -سبحانه و-تعالى-: (سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى . إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ) (الأعلى:6-7)، أي: ما شاء أن يرفع حكمه بالنسخ، فلا خوف إذن أن يذهب شيء من القرآن الكريم، وأما بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- فإن النسيان قد يقع، فبادر المسلمون إلى جمعه في مصحف واحد.

- قال الخطابي: "إنما لم يجمع -صلى الله عليه وسلم- القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة".

وقال الزركشي: "وإنما تُرك جمعه في مصحف واحد؛ لأن النسخ كان يرد على بعض، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض لأدى إلى الاختلاف واختلاط الدين، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ، ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدين".

- أن القرآن الكريم لم ينزل جملة واحدة، بل نزل منجمًا في ثلاث وعشرين سنة.

- أن ترتيب آيات القرآن وسوره ليس على حسب ترتيب نزوله، ولو جمع القرآن في مصحف واحد حينذاك لكان عرضة للتغيير كلما نزل شيء من القرآن.

ولم يكن الصحابة -رضي الله عنهم- إذا اختلفوا في شيء من القرآن يرجعون إلى ما هو مكتوب، بل كانوا يرجعون إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيعرضون عليه قراءتهم ويسألونه عنها.

وبعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومقتل بعض القراء من الصحابة دعت الحاجة إلى جمع القرآن في مصحف واحد، فكان ذلك في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.

ثانيًا: جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-:

سببه: بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ارتدت بعض قبائل العرب، فأرسل أبو بكر -رضي الله عنه- خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجيوش؛ لقتال المرتدين، وكان قوام هذه الجيوش هم الصحابة -رضوان الله عليهم- وفيهم حفاظ القرآن، وكانت حروب الردة شديدة، قتل فيها عدد من القراء الذين يحفظون القرآن الكريم فخشي بعض الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حَفظته، فأراد أن يجمع القرآن في مصحف واحد بمحضر من الصحابة.

وقصة ذلك رواها البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنه قال: "أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟! قَالَ: عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ.

قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟! قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضي الله عنهما- فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرَهُ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ) (رواه البخاري).

تاريخ هذا الجمع:

هو كما جاء في الحديث بعد معركة اليمامة، وفي السنة الثانية عشرة من الهجرة.

أسباب اختيار زيد بن ثابت لهذا الجمع:

ترجع أسباب اختيار زيد بن ثابت لأمور، منها:

- أنه كان من حفاظ القرآن الكريم.

- أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وقد روى البغوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: "قرأ زيد بن ثابت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العام الذي توفاه الله فيه مرتين... إلى أن قال عن زيد بن ثابت: إنه "شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف -رضي الله عنهم أجمعين-".

- أنه من كُتَّاب الوحي للرسول -صلى الله عليه وسلم-.

- خصوبة عقله، وشدة ورعه، وكمال خلقه، واستقامة دينه، وعظم أمانته، ويشهد لذلك قول أبي بكر -رضي الله عنه-: "إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-". وقوله نفسه -رضي الله عنه-: "فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ".

منهج زيد في هذا الجمع:

من المعلوم أن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- كان يحفظ القرآن كله في صدره، وكان القرآن مكتوبًا عنده، ومع هذا فلم يعتمد على ما حفظه، ولا على ما كتب بيده، وذلك أن عمله ليس جمع القرآن فحسب، وإنما التوثيق والتثبت فيما يكتب، ولهذا يقول الزركشي -رحمه الله تعالى- عن زيد: "وتتبعه للرجال كان للاستظهار لا لاستحداث العلم"، وقال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "وفائدة التتبع: المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كُتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-".

ويظهر لي أن من حِكَم ذلك أن زيد بن ثابت لا يكتب القرآن هنا لنفسه، وإنما يكتبه للأمة، وما دام كذلك فلابد أن يكتبه بمشهد من الأمة وحضورها، بل ومن صدورها مما تلقته عن نبيها -عليه الصلاة والسلام-، وثبت في العرضة الأخيرة للقرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم-. والله أعلم.

وقد رسم أبو بكر لزيد المنهج لهذا الجمع فقال له ولعمر ابن الخطاب -رضي الله عنهم-: "اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه".

وقد امتثلا ذلك فقد قام عمر في الناس فقال: "من كن تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأتنا به".

وقد بيَِّن زيد نفسه المنهج الذي سلكه بقوله -رضي الله عنه-: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال"؛ وعلى هذا فإن منهج زيد في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يقوم على أسس أربعة:

- الأول: ما كتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه مما ثبت في العرضة الأخيرة.

- الثاني: ما كان محفوظًا في صدور الرجال.

- الثالث: أن لا يقبل شيئًا من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كُتب بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال السخاوي معناه: "من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله الذي كتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

وقال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-: "وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من مجرد الحفظ" . وكذا مما ثبت في العرضة الأخيرة.

- الرابع: أن لا يقبل من صدور الرجال إلا ما تلقوه من فم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن عمر -رضي الله عنه- ينادي: "من كان تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأتنا به"، ولم يقل من حفظ شيئًا من القرآن فليأتنا به.

مميزات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-:

- جُمع القرآن الكريم في هذا العهد على أدق وجوه البحث والتحري والإتقان، وظفر هذا الجمع بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه.

- أهمل في هذا الجمع ما نسخت تلاوته من الآيات.

- أن هذا الجمع كان على ما ثبت في العرضة الأخيرة من الأحرف السبعة.

- أن هذا الجمع كان مرتب الآيات باتفاق، واختلف العلماء في السور: هل كانت مرتبة في هذا الجمع أم أن ترتيبها كان في عهد عثمان -رضي الله عنه-؟

- اتفق العلماء على أنه كتب نسخة واحدة من القرآن في هذا الجمع حفظها أبو بكر؛ لأنه إمام المسلمين.

- أن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يُلزِم الناس باتباع المصحف الذي كتبه، ولم يكن هذا من مقاصده لما أمر بكتابة المصحف؛ لذا بقي الصحابة يقرءون بما سمعوه من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان في ذلك بعض المنسوخ في العرضة الأخيرة.

مكانة هذا الجمع:

ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- على صحته ودقته، وأجمعوا على سلامته من الزيادة والنقصان، وتلقوه بالقبول والعناية التي يستحقها، حتى قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين" .

ومع التصريح من علي -رضي الله عنه- فقد زعم قوم أن أول من جمع القرآن هو علي -رضي الله عنه- وقد رد عليهم الألوسي فقال: "وما شاع أن عليًا -رضي الله عنه-- لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تخلف لجمعه، فبعض طرقه ضعيفة، وبعضها موضوع، وما صح فمحمول كما قيل: على الجمع في الصدر، وقيل: كان جمعًا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم".

ولهذا روي أن أول من جمعه عمر -رضي الله عنه-، كما روي أن أول من جمعه سالم مولى أبي حذيفة، أقسم أن لا يرتدي برداء حتى يجمعه، وكل ذلك محمول على ما حمل عليه جمع علي -رضي الله عنه-، بل ذكر ابن حجر وغيره أن جمع علي -رضي الله عنه- كان حسب ترتيب النزول، وذكر النهاوندي -أحد مفسري الشيعة- "أن الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين -عليه السلام- كان فيه بيان شأن نزول الآيات، وأسماء الذين نزلت فيهم، وأوقات نزولها، وتأويل متشابهاتها، وتعيين ناسخها ومنسوخها، وذكر عامها وخاصها، وبيان العلوم المرتبطة بها، وكيفية قراءتها".

وإن صح هذا -مع استحالته- فليس هو بجمع للقرآن وإنما هو كتاب في علوم القرآن، وإنما قلت: مع استحالته، فلأن جمعه حسب ترتيب النزول غير ممكن، فقد سأل محمد بن سيرين عكرمة مولى ابن عباس فقال: "قلتُ لعكرمة: ألفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمع الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا".

تسميته بالمصحف:

لم يكن "المصحف" يطلق على القرآن قبل جمع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وإنما عرف هذا الاسم بعد أن أتم زيد جمع القرآن، فقد روى السيوطي عن ابن أشته في كتابه "المصاحف" أنه قال: "لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسمًا فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة يسمونه المصحف، وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه: المصحف".

خبر هذا المصحف:

بعد أن أتم زيد جمع القرآن في المصحف سلمه لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فحفظه عنده حتى وفاته، ثم انتقل إلى أمير المؤمنين من بعده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وبعد وفاته انتقل المصحف إلى حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها-؛ لأن عمر -رضي الله عنه- جعل أمر الخلافة من بعده شورى، فبقي عند حفصة إلى أن طلبه منها عثمان -رضي الله عنه- لنسخه بعد ذلك، ثم أعاده إليها -لما سيأتي- ولما توفيت حفصة -رضي الله عنها- أرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليرسلن بها، فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان -رضي الله عنه-.

ثالثًا: جمع القرآن بمعنى نسخه في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-:

سببه: عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية انتشر الصحابة -رضي الله عنهم- في البلاد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وأمور الدين، وكان كل صحابي يقرأ بما سمعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي بعضه ما لم يثبت في العرضة الأخيرة، وكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب -رضي الله عنه-، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضًا. وعندما اتجه جيش المسلمين لفتح "أرمينية" و"أذربيجان" كان الجنود من أهل العراق وأهل الشام، فكان الشقاق والنزاع يقع بينهم، ورأى حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- اختلافهم في القراءة، وبعض ذلك مشوب باللحن، مع إلف كل منهم قراءته، واعتياده عليها، واعتقاده أنها الصواب، وما عداها تحريف وضلال، حتى كفـَّر بعضهم بعضًا، فأفزع هذا حذيفة -رضي الله عنه- فقال: والله لأركبن إلى أمير المؤمنين -يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه- وكان عثمان قد رأى نحو هذا في المدينة، فقد كان المعلم يُعلـِّم بقراءة، والمعلم الآخر يعلِّم بقراءة، فجعل الصبيان يلتقون فينكر بعضهم قراءة الآخر، فبلغ ذلك عثمان -رضي الله عنه-، فقام خطيبًا وقال: "أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافًا، وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إمامًا".

فلما جاء حذيفة إلى عثمان -رضي الله عنهما- وأخبره بما جرى، تحقق عند عثمان ما توقعه، وقد روى البخاري في "صحيحه" قصة ذلك الجمع في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: "إنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ... ".

تاريخ هذا الجمع:

كان ذلك في أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 كما قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-.

فكرة الجمع:

لما سمع عثمان -رضي الله عنه- ما سمع، وأخبره حذيفة -رضي الله عنه- بما رأى، استشار الصحابة فيما يفعل، فقد روى ابن أبي داود بإسناد صحيح -كما يقول الحافظ ابن حجر- من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف.. فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعًا، قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرًا، قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت.. قال علي: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل".

اللجنة المختارة:

اختار عثمان -رضي الله عنه- أربعة لنسخ المصاحف هم:

زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهؤلاء الثلاثة من قريش.

فقد سأل عثمان الصحابة: "من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت قال: فأي الناس أعرب؟ وفي رواية أفصح، قالوا: سعيد بن العاص، قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد".

المنهج في هذا الجمع:

بعد ما اتفق عثمان مع الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- على جمع القرآن على حرف، سلك منهجًا فريدًا، وطريقًا سليمًا، أجمعت الأمة على سلامته ودقته.

- فبدأ عثمان -رضي الله عنه- بأن خطب في الناس فقال: "أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون: "قراءة أُبيّ" و"قراءة عبد الله"، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذكر كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم، لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم".

- وأرسل عثمان -رضي الله عنه- إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك، فأرسلت بها إليه، ومن المعلوم أن هذه الصحف هي التي جمعت في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- على أدق وجوه البحث والتحري.

- ثم دفع ذلك إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثلاثة، وأمرهم بنسخ مصاحف منها، وقال عثمان للقرشيين: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم".

- إذا تواتر في آية أكثر من قراءة تكتب الآية خالية من أية علامة تقصر النطق بها على قراءة واحدة فتكتب برسم واحد يحتمل القراءتين أو القراءات فيها جميعًا، مثل:

أ?- (فَتَبَيَّنُوا) التي قرأت أيضًا: (فتثبتوا).

ب?- (نُنشِزُهَا) قرأت أيضًا: (نَنشُرُها).

أما إذا لم يمكن رسمها بحيث تحتمل القراءات فيها فتكتب في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وفي مصاحف أخرى برسم يدل على القراءة الأخرى مثل:

أ?-  (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ) هكذا كتب في بعض المصاحف، وفي بعضها: (وأوصى).

ب?- (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ). بواو قبل السين في بعض المصاحف، وفي بعضها بحذف الواو.

وبعد الفراغ من نسخ المصاحف بعث عثمان -رضي الله عنه- بنسخ منها إلى الأمصار الإسلامية، حيث نشط المسلمون في نسخ مصاحف منها للأفراد، وكان زبيد بن الحارث في المدينة يتفرغ في رمضان من كل سنة لعرض المصاحف فيعرضون مصاحفهم عليه، وبين يديه مصحف أهل المدينة.

مزايا جمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه-:

تميز هذا الجمع بمزايا عديدة، منها:

- كُتب القرآن على حرف واحد من الأحرف السبعة هو حرف قريش، وقد كتب مجردًا حتى يحتمل أحرفًا أخرى، فإن لم يحتمل إلا حرفًا واحدًا كتب بلسان قريش، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "جمع عثمان -رضي الله عنه- الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القراءة بها لما كان ذلك مصلحة".

- إهمال ما نسخت تلاوته؛ فقد كان قصد عثمان -رضي الله عنه- جمع الناس على مصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه؛ خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد.

- الاقتصار على ما ثبت في العرضة الأخيرة وإهمال ما عداه؛ فقد روى ابن أبي داود في "المصاحف" عن محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح، قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر، فجيء بها قال: وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه. قال محمد: فقلت لكثير، وكان فيهم فيمن يكتب هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت ظنًا إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله".

- الاقتصار على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما لم يثبت. وقد كان الهدف من جمع القرآن الكريم في عهد عثمان -رضي الله عنه- تجريده مما لم يثبت من القراءات في العرضة الأخيرة للقرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان بعض الصحابة يقرأ بقراءة كان سمعها من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم تثبت في العرضة الأخيرة.

- كان مُرتَّب الآيات والسور على الوجه المعروف الآن؛ قال الحاكم في "المستدرك": "إن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جُمع بعضه بحضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق، والجمع الثالث هو في ترتيب السور، وكان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنهم أجمعين-".

الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان -رضي الله عنهما-:

كان معنى "الجمع" ظاهرًا في جمع القرآن في عهد أبي بكر، فقد كان القرآن مفرقًا فأمر بجمعه، كما قال المحاسبي: "كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء".

إذاً فمعنى الجمع فيه ظاهر لا يحتاج إلى تفريق بينه وبين الجمع في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن الإشكال واللبس هو في الجمعين الثاني والثالث، إذ كيف يأمر عثمان بجمع القرآن وهو مجموع في عهد أبي بكر -رضي الله عنهما-؟?!

ولذا فإن العلماء يولون التفريق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد عثمان عنايتهم لإزالة هذا اللبس، ويذكرون فروقـًا.

قال القاضي أبو بكر في "الانتصار": "لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما ليس كذلك".

وقال ابن التين وغيره: "الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض؛ فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجًا بأنه نزل بلغتهم".

ونستطيع أن نستخلص أهم الفروق، وهي:

- أن الباعث لجمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- خشية أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته، وذلك حين استحرَّ القتل بالقراء في حروب الرِّدَّة، أمَّا جمعه في عهد عثمان -رضي الله عنه- فلكثرة الاختلاف في وجوه القراءة.

- أنَّ جمع أبي بكر -رضي الله عنه- يشمل ما بقي من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة، أما جمعه في عهد عثمان فقد كان على حرف واحد هو حرف قريش مع تجريده، حتى يحتمل أحرفًا أخرى.

- أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- لم يلزم الناس باتباع المصحف الذي كتبه، أما عثمان -رضي الله عنه-؛ فألزمهم باتباعه بمشورة الصحابة وإجماعهم، لذا مُنعت القراءة بما نسخ من الأحرف السبعة ولم يثبت في العرضة الأخيرة، وظهر بذلك ما يُعرف بالقراءة الشاذة، ولو صَحّ سندها وثبت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- بها، وبهذا يظهر أن ضابط القراءة الشاذة التي صح سندها ولم يقرأ بها الأئمة كونها نسخت في العرضة الأخيرة.

- أنَّ جمع أبي بكر -رضي الله عنه- كان مرتب الآيات، وفي ترتيب السور خلاف، أمَّا جمع عثمان فقد كان مرتب الآيات والسور باتفاق.

- أنَّ الجمع في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- بمعنى الجمع في مصحف واحد، وأما الجمع في عهد عثمان -رضي الله عنه- فبمعنى نسخه في مصاحف متعددة.

إنفاذ المصاحف:

بعد أن أتمَّت اللجنة نسخ المصاحف أنفذ عثمان -رضي الله عنه- إلى آفاق الإسلام بنسخ منها، وأرسل مع كل مصحف مَنْ يوافق قراءته، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السُّلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري، وتلقى التابعون في كل قطر قراءة إمامهم، وتفرغ قوم منهم لضبط القراءات حتى صاروا أئمة يُرحل إليهم.

موقف الصحابة من هذا الجمع:

وبعد أن أنفذ عثمان المصاحف أمر بما سوى مصحفه أن يُحرق، وبعث إلى أهل الأمصار: "إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم".

وقد رضي الصحابة -رضي الله عنهم- ما صنع عثمان، وأجمعوا على سلامته وصحته. وقال زيد بن ثابت: "فرأيت أصحاب محمد يقولون: أحسن والله عثمان، أحسن والله عثمان".

وروى ابن أبي داود عن مصعب بن سعد، قال: "أدركت الناس متوافرين حين حرَّق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، وقال: لم يُنكِر ذلك منهم أحد".

وروى سويد بن غفلة، قال: قال علي -رضي الله عنه-: "لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا"، وعند ابن أبي داود قال: قال علي في المصاحف: "لو لم يصنعه عثمان لصنعته".

ولم يُنقل عن أحد من الصحابة خلاف أو معارضة لما فعل عثمان -رضي الله عنه- إلا ما روي من معارضة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وينبغي أن نعلم أن معارضته -رضي الله عنه- لم تكن بسبب حصول تقصير في الجمع، أو نقص أو زيادة، وإنما جاءت معارضته لعدم تعيينه مع أعضاء لجنة النسخ للمصاحف، ولهذا قال: "أُعْزَلُ عن نسخِ المصاحف ويتَوَلاَّها رجل، والله لقد أسلمت وإنَّه لفي صُلب رجلٍ كافرٍ".

وروى الترمذي عن ابن شهاب، قال: "فبلغني أن ذلك كَرِهَه مِن مقالة ابن مسعود رجالٌ من أفاضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-".

وقد دافع أبو بكر الأنباري عن اختيار زيد بقول: "ولم يكن الاختيار لزيد.. إلا أن زيدًا كان أحفظ للقرآن من عبد الله، إذ وعاه كله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ، ولا ينبغي أن يظنَّ جاهل أنَّ في هذا طعنًا على عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، لأن زيدًا إذ كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبًا لتقديمه عليه، لأن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كان زيد أحفظ منهما للقرآن، وليس هو خيرًا منهما، ولا مساويًا لهما في الفضائل والمناقب، وما بدا عن عبد الله بن مسعود من نكير فشيء نَتَجَه الغضبُ، ولا يعمل به ولا يؤخذ به، ولا يُشك في أنه -رضي الله عنه- قد عرف بعد زوال الغضب عنه حُسْنَ اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم".

وأكَّد ذلك الذهبي -رحمه الله- فقال: "وقد ورد أنَّ ابن مسعود رضي وتابع عثمان ولله الحمد".

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "وإنما روي عن عبد الله بن مسعود شيء من الغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف... إلى أن قال: ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق".

فإن قيل: كيف جاز للصحابة ترك ما لا يحتمله الرسم من الأحرف التي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقراءة القرآن بها؟

قيل: إنَّ أمره إياهم بالأحرف السبعة لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمرُ إباحة ورخصة... وإذا كان ذلك كذلك لم يكن القوم بتركهم بقية الأحرف تاركين ما عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما يؤدون به الواجب، وهو أحد هذه الأحرف، فإذا حفظوه ونقلوه؛ فقد فعلوا ما كلفوا به.

وقد علَّل ابن القيم -رحمه الله تعالى- جمع الناس على حرف واحد، وهو أيضًا تعليل حسن للاقتصار على ما يحتمله الرسم منها حيث قال: "فلما خاف الصحابة -رضي الله عنهم- على الأمة أن يختلفوا في القرآن، ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف؛ فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءة بغيره، وهذا كما لو كان للناس عدَّة طرق إلى البيت، وكان سلوكهم في تلك الطرق يوقعهم في التفرُّق والتشتت، ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمامُ جمعهم على طريق واحد، فترك بقية الطرق جاز ذلك، ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود، وإن كان فيه نهي عن سلوكه لمصلحة الأمة".

عدد المصاحف التي أمر عثمان -رضي الله عنه- بنسخها:

اختلف في عدد النسخ التي كتبها عثمان إلى خمسة أقوال:

- قيل: إنها أربع نسخ؛ قال أبو عمرو الداني: "أكثر العلماء على أنَّ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لمَّا كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كلِّ ناحية من النواحي بواحدة منهن، فوجَّه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة".

- قيل: إنها خمس نسخ؛ قال السيوطي: "المشهور أنها خمسة".

- قيل: إنها سبع نسخ؛ فقد روى ابن أبي داود عن أبي حاتم السجستاني، قال: "لمَّا كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدًا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا". ونقل ذلك أبو شامة والمهدوي، وقال مكي: "ورواته أكثر".

- وقيل: إنها ثمانية، وهو قول ابن الجزري.

- وقيل: إنها ستة وعلى هذا القول بنى ابن عاشر منظومته في اختلاف الحروف".

خبر هذه المصاحف:

ذكر بعض المؤرخين القدامى رؤيتهم لبعض هذه المصاحف، وممن ذكر رؤيته لبعضها ابن جبير (ت614هـ) حين زار جامع دمشق رأى في الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان -رضي الله عنه-، وهو المصحف الذي وجَّه به إلى الشام كما قال.

وقد زار المسجد أيضًا ابن بطوطة (ت779هـ) فقال: "وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية، وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة فيها المصحف الكريم الذي وجهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الشام".

ورأى النسخة نفسها ابن كثير (774هـ) -رحمه الله تعالى- حيث قال: "وأمَّا المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديمًا في طبريَّة، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمس مائة، وقد رأيته كتابًا جليلاً عظيمًا ضخمًا بخط حسن مبين قوي بحبر محكم، في رِقٍّ أظنه من جلود الإبل، والله أعلم.

كما ذكر ابن بطوطة أنه رأى في مسجد علي -رضي الله عنه- في البصرة المصحف الذي كان عثمان -رضي لله عنه- يقرأ فيه لما قُتِلَ، وأثر تغيير الدم في الورقة التي فيها قوله -تعالى-: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137)، ويبدو كذلك أن ابن الجزري وابن فضل الله العمري قد رأيا كلاهما هذا المصحف الشامي نفسه. ورأى ابن الجزري مصحفـًا في مصر.

ويبدو -كذلك- أنَّ المصحف الشامي ظلَّ محفوظًا في الجامع الأموي إلى أوائل القرن الرابع عشر الهجري حيث قيل: إنه احترق، فقد قال الأستاذ محمد كرد علي في حديثه عن الجامع الأموي: حتى إذا كانت سنة 1310هـ؛ سرت النار إلى جذوع سقوفه فالتهمتها في أقل من ثلاث ساعات فدثر آخر ما بقي من آثاره ورياشه، وحرق فيه مصحف كبير بالخط الكوفي كان جيء به من مسجد عتيق في بُصرى، وكان الناس يقولون: إنه المصحف العثماني. وقيل: إن هذا المصحف أمسى زمنًا في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في ليننجراد ثم نقل إلى انجلترا.

كما أن هناك مصاحف أثرية تحتويها خزائن الكتب والآثار في مصر، ومنها المصحف المحفوظ في خزائن الآثار بالمسجد الحسيني، ويقال عنها: إنها مصاحف عثمانية، وقد شَكَّك كثيرًا الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني بهذا معللاً بأن فيها زركشة ونقوشًا موضوعة كعلامات للفصل بين السور ولبيان أعشار القرآن، ومعلوم أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا.

وفقد هذه المصاحف لا يقلل من ثقتنا اليقينية بما تواتر واستفاض نقله من المصاحف ثقة عن ثقة وإمامًا عن إمام، وسواء وجدت هذه المصاحف أو فقدت فإنَّا على يقين تام لا يزاوله شك ولا يعتريه ريب بسلامة هذه المصاحف من الزيادة أو النقصان، وقد اعترف بذلك غير المسلمين من العلماء المحققين.

يقول المستشرق موير: "إنَّ المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يُذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها، والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يُعدّ أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا".

من طرق جمع القرآن:

من الطرق لجمع كتاب الله بعد جمعه في صدور المؤمنين، وجمعه وتدوينه يأتي النوع الثالث:

جمعه بمعنى تسجيله صوتيًا:

من المعلوم أنَّ للتلاوة أحكامًا ينبغي أن يأخذ بها تالي القرآن الكريم: كالقلقلة، والرَّوْمِ، والإشْمَامِ، والإخفَاء، والإدْغَامِ، والإقلاب، والإظْهارِ، ونحو ذلك، وليس من السهل بل قد تتعذر كتابة مثل هذا.

ولهذا قرر العلماء -رحمهم الله تعالى- أنه لا يصح التعويل على المصاحف وحدها، بل لابُدَّ من التلقِّي عن حافظٍ متقنٍ، وكانوا يقولون: "من أعظم البَليَّة تشييخ الصحيفة "، ويقولون: "لا تأخذوا القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفيّ "، وهو الذي يُعَلِّمُ الناس وينظر إلى رسم المصحف، وكان الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول: "من تفقه من بطون الكتب ضَيَّعَ الأحكام".

بل إنَّ أعلام حُفَّاظ القرآن يُميزون الحفظ بالتلقي، فهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "والله لقد أخذت مِنْ في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعًا وسبعين سورة"، ويبين عمَّن أخذ باقيه فيقول في رواية أخرى: "وأخذتُ بقية القرآن عن أصحابه"، ولإدراكه -رضي الله عنه- مكانة التلقي بالمشافهة كان إذا سُئل عن سورة لم يكن تلقاها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صرَّح لهم بذلك ودَلَّهم على مَن تلقاها بالمشافهة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعن مَعْدِ يَكْرِبَ قال: "أتينا عبد الله، فسألناه أن يقرأ: (طسم) المائتين، فقال: ما هي معي، ولكن عليكم مَنْ أخذها مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبَّاب بن الأرت، قال: فأتينا خباب بن الأرت، فقرأها علينا".

وما قاله ابن مسعود -رضي الله عنه- وغيره من أعلام الحفاظ في وجوب التلقي للقرآن مشافهة لم يبتدعوه من عند أنفسهم، وإنما أخذوه من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه يتعلم القرآن من جبريل -عليه السلام- ويُشافهه به مشافهة، ويُعارضه القرآن في كل عام في شهر رمضان، وعارضه عام وفاته بالقرآن مرتين، والصلوات الخمس يُجْهَرُ في ثلاث منها، وكذا في صلاة الجمعة، والاستسقاء، والخسوف، والكسوف، والتراويح، والعيدين، وفي هذا إشارة إلى تعلم الناس للتلاوة الصحيحة في الصلاة الجهرية ثم تطبيقها في الصلاة السرية.

وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبعث القراء إلى مَن يدخل في الإسلام لتعليمهم التلاوة، وكان بإمكانه -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب لهم، واقتدى بسنته من بعده الخلفاء الراشدون، فأرسلوا إلى أهل البلدان المفتوحة قُرّاءً يعلمونهم القرآن.

ولما نسخ عثمان المصاحف أرسل مع كل مصحف قارئًا يُعَلم الناس عليه؛ ولا شك أنَّ هذا دليل قاطع على أن من أحكام القراءة ما لا يمكن إتقانه إلا بالتلقي الشفهي، ولم يكن من وسيلة لتحقيق ذلك إلا عن طريق القرّاء، وقد وجدت في العصر الحديث وسائل وآلات تسجل الصوت، ثم تعيده.

ولا شك أنَّ هذه الآلات، والاستفادة منها في نشر القرآن الكريم وبثه في العالم الإسلامي؛ خاصة في البلدان التي تفتقد المُعَلِّم الضابط، من خير الوسائل لحفظه وتعليمه.

وقد أدرك هذا الأمر بعضُ الغيورين على الإسلام والحريصين على نشره، فتداعوا لجمع القرآن في أشرطة صوتية كما جُمِعَ على الورق في الصحف.

وتبنَّت الجمعَ الجمعيةُ العامة للمحافظة على القرآن الكريم بمصر، وكان ذلك سنة 1379هـ باقتراح من رئيسها الأستاذ "لبيب السعيد"، وقد اتفقوا على تسمية المشروع بـ"المصحف المرتل" أو "الجمع الصوتي".

نسأل الله أن ينعم على الأمة بحفظ كتاب ربها، وصلى الله على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.