تجديد الإيمان بآيات الرحمن (4) سورة البقرة
كتبه/ أحمد حرفوش
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكر الله في سورة البقرة من صفات المنافقين أنهم: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (البقرة: 9).
والخِدَاع: المكر والاحتيال وإظهار خلاف الباطن، وأصله الإخفاء. والمعنى: يعملون عَمَل المخادِع بإظهار ما أظهروه من الإيمان مع إصرارهم على الكفر، يعتقدون -بجهلهم- أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعُهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، وما علموا أن الله لا يُخدَع لأنه لا تخفى عليه خافية.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "النفاق هو إظهار الخير، وإسْرَار الشر. وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يُخَلِّد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب والأوزار؛ لأن المنافق يُخالِف قَوْلُه فِعْلَه، وسِرُّه علانيته، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية؛ لأن مكة لم يكن بها نفاق (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ . وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 9)، أي: وما يخدعون في الحقيقة إلا أنفسهم لأن وبالَ فِعْلهم راجعٌ عليهم (وَمَا يَشْعُرُونَ) أي: ولا يُحِسُّون بذلك ولا يفطنون إليه، لتمادي غَفْلتهم، وتكامل حَمَاقتهم (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (البقرة: 10)، أي: في قلوبهم شكٌّ ونفاق فزادهم الله رَجْسًا فوق رَجْسهم، وضَلَالًا فوق ضَلَالهم، وهو مرضٌ في الدين، وليس مرضًا في الجسد، وهو الشكُّ الذي دخلهم في الإسلام فزادهم الله رَجْسًا وشَكًّا (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة: 10)، أي: ولهم عذابٌ مؤلمٌ بسبب كذبهم في دعوى الإيمان، واستهزائهم بآيات الرحمن.
ثم شرع -تعالى- في بيان قبائحهم، وأحوالهم الشنيعة فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) (البقرة: 11)، أي: وإذا قال لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإفساد بإثارة الفتن، والكفر والصَّدِّ عن سبيل الله (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة: 11)، أي: ليس شأننا الإفسادُ أبدًا، وإنما نحن أناسٌ مُصْلِحون، فكانوا كمن قال الله فيهم (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) (فاطر: 8)؛ ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفَيِ التأكيد (أَلَا) المنبهة و(إِنَّ) المقررة، فقال: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 12)، أي: ألا فانتبهوا أيها الناس، إنهم هم المفسدون حقًّا لا غيرهم، ولكن لا يفطنون ولا يُحِسُّون، لانطماس نُور الإيمان في قلوبهم.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) (البقرة: 13)، أي: وإذا قيل للمنافقين: آمنوا إيمانًا صادقًا لا يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخلصوا في إيمانكم وطاعتكم لله (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) (البقرة: 13)، قالوا: أنؤمن كإيمان هؤلاء الجهلة أمثال صهيب -رضي الله عنه-، وعمار -رضي الله عنه-، وبلال -رضي الله عنه- ناقصي العقل والتفكير؟! فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب -رضي الله عنه- وبلال -رضي الله عنه-: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) (البقرة: 13)، أي: ألا إنهم هم السفهاء حقًّا، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العَمَى، والبُعْد عن الهدى. ثم قال تعالى منبهًا إلى مصانعتهم ونفاقهم (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) (البقرة: 14)، أي: وإذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإيمان والموالاة نفاقًا ومصانعة (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) (البقرة: 14)، أي: وإذا انفردوا ورجعوا إلى رؤسائهم وكبرائهم، أهل الضلال والنفاق (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة: 14)، أي: قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإظهار الإيمان، قال تعالى ردًّا عليهم (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (البقرة: 15)، أي: الله يجازيهم على استهزائهم بالإمهال ثم بالنكال.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذا إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فاللفظ متفق والمعنى مختلف، وإليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر، مثل: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: 40) ومثل (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (البقرة: 194). فالأول ظلم، والثاني عدل (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة: 15). العَمَه: التَحَيُّر والتردد في الشيء؛ والمعنى: ويزيدهم -بطريق الإمهال والترك- في ضَلَالهم وكفرهم يتخبطون ويترددون حَيَارَى؛ لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رَشَدًا ولا يهتدون سبيلًا.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.