الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 - 29 ربيع الثاني 1447هـ

ينصرنا أم ينتصر لنا؟ (1)

كتبه/ خالد آل رحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعندما يرى الناظر حال الأمة الآن وما وصلت إليه من مَهَانَة وإذلال، يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا لا ينصرنا الله؟

فتعيَّن بيان ذلك، وأنه من الأهمية بمكان، وإجابة السؤال بسؤال: هل ينصرنا أم ينتصر لنا، وما الفرق؟

إن الله -تعالى- عندما ينتصر لنا يكون ذلك دون تدخل منا، وهذا تبعًا لمشيئته، لكن عندما نأخذ بالأسباب، عندئذٍ يأمر -تعالى- بنصرنا وتأييدنا؛ ولذلك جاءت الإجابة في سورة عظيمة من سور القرآن، وهي سورة محمد، حيث ذكر -تعالى- مقومات النصر، ولماذا لا ينتصر لنا مع قدرته -جل وعلا- على ذلك؛ فبيَّن السبب، ووضَّح المرض، ووضع العلاج -سبحانه وتعالى-، فقال: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (محمد: 4)، أي: لو يشاء الله -تعالى- لاستأصلهم ولم يكلفكم بقتالهم، ولكنه ناط المسببات بأسبابها المعتادة.

قال البقاعي -رحمه الله-: "أي: بنفسه من غير أحد، انتصارًا عظيمًا بأن لم يبقِ منهم أحدًا".

ولاحظ التعبير القرآني (يَشَاءُ)، أي: عندما يشاء ويريد في أي وقت وأي مكان، ومهما كانت قوة عدوكم، فهو -سبحانه وتعالى- قادر في أقل مما تتخيلون أن ينتصر للمؤمنين من الكافرين، ولكنه -تعالى- بيَّن السبب الأول في ذلك، وهو: الابتلاء بين المسلمين أنفسهم، فقال -جل وعلا-: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (محمد: 4)، وهذا الابتلاء حتى يميز الخبيث من الطيب، ويظهر الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق.

فلو شاء لانتصر لنا بغير حركة مِنَّا، ولكنه -تعالى- جعل ذلك ابتلاءً ليميز الخبيث من الطيب، ورتَّب على ذلك التمايز ظهور فئة هي الأحق بالنصرة، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)؛ لم يقل: أيها الزهاد أو العباد، أو أصحاب الأوراد والاجتهاد حصرًا، وإنما قال: الذين آمنوا، فيدخل في النداء كل مسلم مؤمن، والنداء لأهل الإيمان، ثم قال -تعالى-: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمد: 7)، و(إِنْ) شرطية، و(تَنْصُرُوا) فعل الشرط، و(يَنْصُرْكُمْ) جواب الشرط. فالنصر الذي تبغونه مبني على نصر الله، والذي هو نصر دينه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإقامة شرعه -جل وعلا-.

قال القصاب -رحمه الله-: "من استشعر التقوى في مقاصده وأخلص النية لله في أعماله، لم يسلمه الله إلى عدوه، ولم يُعْلِه عليه، وكان الظفر له على من ناوأه".

وهذه الآية وعيد من الله للأمة، بأنها إن تخلت عن نصر الله، وكلها الله إلى نفسها، وتخلى عن نصرها، وسلَّط عليها عدوها، فالله -عز وجل- رتب شرط نصرتنا بنصرته؛ ليس هذا فحسب، بل يضيف على ذلك تثبيت الأقدام، فقال -تعالى-: (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).

قال البقاعي -رحمه الله-: "ولما كان النصر قد يكون مع العجز والكسل والجبن والفشل، بيَّن أنه يحميهم من ذلك فقال: (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، أي: تثبيتًا عظيمًا بأن يملأ قلوبكم سكينة واطمئنانًا، وأبدانكم قوة وشجاعة، عندها تنشرح الصدور ثقة بالله واعتزازًا به، وإن تمالأ عليكم أهل الأرض".

ثم عقب -تعالى- بتذكيرهم بما حل بالقرون الأولى، فقال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (محمد: 10)، وربما يكون التذكير للمؤمنين حتى يطمئنوا، ويكون للكفار حتى لا يغتروا بما يفعلون بالمؤمنين، وأن خاتمتهم ستكون كمن سبقهم، ثم بيَّن لهم نوعية العقاب بقوله -جل وعلا-: (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (محمد: 10).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.