الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 15 أكتوبر 2025 - 23 ربيع الثاني 1447هـ

الوصايا النبوية (38) الحذر من صغائر الذنوب (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ)، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: (كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضًا فَلَاةً فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا) (رواه أحمد والطبراني، وحسنه الألباني). وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

مجمل الوصية:

في هذه الوصية يحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من الذنوب الصغيرة؛ لأنه إذا كانت الكبائر ظاهرة، وأثرها واضحًا، فإن صغائر الذنوب قد تكثر في فعل الإنسان دون أن يشعر، فتصبح مهلكة له، فصغار الذنوب تجر بعضها بعضًا حتى تهلك المرء إذا لم يكفر عنها، ثم ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلًا طلبًا لمزيد من الفهم، بقوم نزلوا صحراء، فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا كمًّا كبيرًا فأججوا نارًا، فكذلك الذنوب الصغائر إذا انضمت وتراكمت استعظم أمرها، وكانت وبالًا على صاحبها، فالهلاك قد يكون بسبب أشياء صغيرة لا يراها الإنسان شيئًا بل يحتقرها.

ـ فيا من تستهين بالذنوب.. احذر الاستصغار، والإصرار، فإنهما طريق الهلاك، ولنا مع ذلك وقفات.

الوقفة الأولى: الهلاك بسبب الاستصغار(1):

ـ الغافل يرى ذنوبه صغيرة، لضعف هيبة الله في قلبه وعدم مبالاته بذنبه، حتى لو كان كبيرًا: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار" (رواه الترمذي واللفظ له، وأخرجه البخاري باختلافٍ يسيرٍ). وقال أنس بن مالك: "إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات" (رواه البخاري)(2).

ـ الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة، وترك الخوف من الله، مع الاستهانة بها - ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في رتبتها: قال بلال بن سعد -رحمه الله-: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت". وقال ابن القيم: "ولا يزال الشيطان يسهل على الإنسان محقرات الذنوب حتى يستهين بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالًا منه" (التفسير القيم). وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله" (الداء والدواء).

الوقفة الثانية: الهلاك بسبب الإصرار:

ـ وهو المداومة على الذنب الصغير حتى يصير كبيرًا عند الله -تعالى-: قال ابن بطال -رحمه الله-: "المحقرات إذا كثرت صارت كبارًا مع الإصرار" (فتح الباري لابن حجر). وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار".

ـ إشارة مجملة إلى قصة برصيصا العابد حيث تدرج به الشيطان من ذنب إلى ذنب حتى أوقعه في الكفر والعياذ بالله.

الوقفة الثالثة: أهمية المراقبة في اجتناب المحقرات:

ـ المراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق -سبحانه وتعالى- على ظاهرك وباطنك: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الإحسان، فقال: (الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) (رواه مسلم). وقال ابن المبارك لرجل: "راقب الله تعالى"، فسأله عن تفسيره، فقال: "كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل" (إحياء علوم الدين).

ـ كلما زادت مراقبة الله، زاد تعظيمه في النفوس، فيرى المؤمن ما يستهين به البعض عظيمًا: لما نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (الحجرات: 2). قال ثابت بن قيس: "أنا والله الذي كنت أرفع صوتي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أخشى أن يكون الله قد غضب علي فحزن واصفر، ففقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنه فقيل: يا نبي الله إنه يقول: إني أخشى أن أكون من أهل النار إني كنت أرفع صوتي عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة" (أخرجه النسائي في الكبرى، والبخاري ومسلم بنحوه)(3).

خاتمة: المحقرات تسجل على العبد:

ـ الذنوب جراحات ورب جرح وقع في مقتل، وليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- طَالِبًا) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 8). وقال -تعالى-: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).

ـ تذكير بالوصية: قال: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ).

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فهذه معاصٍ من جهة السمع، وهذه معاصٍ من جهة البصر، وهذه معاصٍ من جهة اليد، إلخ، فتهلك صاحبها إن لم يتداركه الله. وهذه أمثلة للإشارة إليها: (الحلف بغير الله ـ عدم الطمأنينة في الصلاة ـ سبق الإمام ـ التدخين ـ النظر إلى النساء الأجنبيات ـ الدخول على النساء في غياب الأزواج ـ الخلوة بالنساء في المصاعد والعيادات والمحلات المغلقة ونحوها ـ مصافحة النساء الأجنبيات ـ لبس الذهب للرجال ـ التشبه بين الرجال والنساء ـ سماع الأغاني ـ مشاهدة الأفلام والمسرحيات والمسلسلات ـ إسبال الثياب للرجال ـ التطفيف في الميزان ـ ظهار الرجل من امرأته ـ الغيبة والنميمة ـ ... وهناك ذنوب هي من الكبائر باتفاق يستهين بها كثير من الناس ويحقرونها).

(2) المقصود به: كأن المؤمن واقف عند سفح جبل ويرى ذنوبه مثل ذلك الجبل "يخاف أن يقع عليه"، أي: يخاف أن يقع هذا الجبل عليه، وهو في أسفله؛ وذلك لاستعظام المؤمن أمر معصية الله -عز وجل-، "وإن الفاجر"، أي: الفاسق "يرى ذنوبه كذباب"، أي: مثل تلك الحشرة الصغيرة في حجمها وأذاها؛ فذنبه سهل عنده لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، "وقع على أنفه قال به هكذا فطار"، أي: عندما يقع على أنفه فيتأذى منه أزاحه بيده ليطير؛ وذلك لضعف هيبة معصية الله -سبحانه وتعالى- في قلب الفاجر.

(3) فالجزاء من جنس العمل: خاف الله في الدنيا خوفًا أقعده عن الخروج من بيته، فجازاه الله بالأمن من هذا الخوف في الدنيا قبل الآخرة.