الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 15 أكتوبر 2025 - 23 ربيع الثاني 1447هـ

قراءة في القضايا المنهجية للدعوة السلفية (3) السلفية ومناهج التغيير

كتبه/ طلعت مرزوق

تتعدد مناهج تغيير المجتمعات وتنقيتها مِن مُخالفات الشريعة الإسلاميَّة بين الكيانات المعاصرة على النحو التالي:

- التغيير مِن خلال الانتخابات البرلمانيَّة.

- التغيير مِن خلال المواجهة العسكريَّة.

- التغيير مِن خلال العمل الفردي في الدعوة والتربية.

المنهج الأول:

فيرى أصحاب المنهج الأول المشاركة في العمل السياسي بتكوين أحزاب إسلاميَّة، أو بدون أحزاب، أو التحالف مع أحزاب أخرى -وإن كانت علمانيَّة- لتطبيق الشريعة الإسلاميَّة مِن خلالها.

ويختلف حُكْم دخول هذه المجالس باختلاف المُشارِك، فإن كان بغرض تحقيق فلسفة الديمقراطيَّة بإباحة التشريع بما لم يأذن به الله -عزَّ وجلَّ- طالما كان بإرادة الأغلبيَّة؛ فهذا شِرْك، لكن لا يُكَفَّر صاحبه بعينه إذا كان جاهلًا، ولم تَبْلُغه الحجَّة، أو متأوِّلًا.

وإن كان بغرض تطبيق الشرع، مع إعلان البراءة مِن جواز التشريع بما لم يأذن به الله -عزَّ وجلَّ-؛ فقد اختلف فيه العلماء المعاصرون على قولين:

الأول: جواز المشاركة إذا كانت المصلحة في ذلك.

الثاني: عدم الجواز، وأن هذه المشاركة مِن باب الذنوب والمعاصي، وليست مِن باب الشِرْك؛ لأن المُشارك حقَّق البراءة اعتقادًا، ولم يُطَبِّقها عملًا.

ورأت الدعوة أن الخلاف مُعتَبر، واختارت حينها عدم المشاركة؛ لِغَلَبَة الظن بحصول مفاسد أكبر بناءً على الممارسات السابقة.

وبعد ثورة يناير 2011م، ومحاولة العالمانيين حذف مرجعية الشريعة من الدستور هبَّ كل الإسلاميين للتصدي لهذا، وظهر هذا جليًّا في استفتاء 19 مارس؛ حينئذٍ تغيرت الفتوى وقرَّرت الدعوة استكمال العمل السياسي بدون التنازلات التي كان يزعم مَن يخوض العمل السياسي أنه لا يمكن خوضه إلا بتقديمها، ومِن ثَمَّ كانت تلك التجربة في العمل السياسي المنضبط بالقواعد الشرعية.

وقرَّرت الدعوة أن هذا الطريق مجرَّد وسيلة مِن وسائل تحقيق منهج التغيير الذي تعتمده، ضمن وسائل أخرى بذات القيد المشار إليه سالفًا، طالما كان التغيير أو التأثير أو الإعذار ممكنًا مِن خلاله، مع إدراك الفارق بين الواجب المطلوب المرجو، وبين الممكن المتاح بحسب الطاقة، وإعمال قواعد المصالح والمفاسد طبقًا للسياسة الشرعيَّة.

المنهج الثاني:

يرى أصحاب المنهج الثاني حتميَّة المواجهة العسكريَّة. ولا شك أن حُبَّ الجهاد فرض عين على كل مسلم، وأنه ماضٍ في الأمة إلى يوم القيامة، وأن الإعداد له واجبٌ عليها بقدر الاستطاعة.

وقد مرَّ تشريع الجهاد بمراحل:

الأولى: الكف والإعراض والصبر على الأذى، مع الاستمرار في الدعوة.

الثانية: إباحة القتال مِن غير فرض.

الثالثة: فرض القتال على المسلمين لِمَن يقاتلهم فقط.

الرابعة: قتال الكفار ابتداءً.

واستقر أمر الجهاد على المرحلة الأخيرة؛ بيد أن البعض فَهِمَ القول بالنسخ فهمًا غير صحيح، فأنكر المرحليَّة بالكليَّة.

والنسخ عند السلف يشمل التقييد، والبيان، والتخصيص، ولا خلاف بين العلماء في العمل بمراحل الجهاد؛ وإلا فكيف يكون واجبًا على الناس وهم غير قادرين ولا مستطيعين؟! فالواقع هو الذي يحدِّد أي الأحكام أنسب في مراحل الجهاد.

وقد تكلَّم العلماء في جواز مهادنة الكفار بمال عند ضعف المسلمين (ابن قدامة -رحمه الله-، المغني، ج 9، ص 239). وفي أن العجز يشمل الحسي، كما يشمل غلبة الظن بالضرر والهلاك لضعف المسلمين، ونقص قوتهم عن نصف قوة عدوهم (النووي -رحمه الله-، روضة الطالبين، ج 10، ص 248).

والجهاد إذا أُطلِقَ فالمراد به قتال الكفار لإعلاء كلمة الله -تعالى-، ولا ينصرف إلى غيره إلا بقرينة.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين. ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ) (رواه أحمد، وابن حبان، وصححه الألباني)، كان جهاد النفس مقدمًا على جهاد العدو في الخارج، وأصلًا له، فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولًا لتفعل ما أُمرت به وتترك ما نُهيت عنه ويحاربها في الله، لم يُمكنه جهاد عدوه في الخارج؛ فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يُجاهده ولم يحاربه في الله؟! بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يُجاهد نفسه على الخروج" (زاد المعاد، ج 3، ص 5 وما بعدها).

فالجهاد غير منحصرٍ في الخروج على الحكام، ومَن كان يستحق العزل؛ فلا بد مِن اعتبار القدرة، وألا يكون بمنكر أعظم مِن بقائه؛ فينبغي علينا أن نتعلَّم سنن وأحكام الجهاد، حتى لا تتحوَّل ديارنا إلى ساحة حرب بين المسلمين أنفسهم.

هذا، وقد لعبت السياسة والتفاهمات التركيَّة الغربيَّة الدور الأكبر فيما حدث في سوريا، وسقوط النظام العلوي النصيري.

والواقع السوري فريد ومُركَّب، ومختلف عن غيره. والنصر قد يكون مِن غير قوة ماديَّة، كما أهلك الله فرعون، ولا يزال الحدث مستمرًا. نسأل الله أن ينتهي إلى خير الإسلام والمسلمين.

المنهج الثالث:

يرى أصحاب المنهج الثالث التركيز على العمل الفردي في الدعوة والتربية، وأن الدور الأساسي للدعاة والعلماء هو إصلاح أفراد الأمة.

وبعضهم يرى أولويَّة إصلاح العقيدة، ونشر العلم. وبعضهم التربية على العبادة والذكر وفضائل الأعمال. وأن انتشار الأفراد الصالحين في مجتمع كفيل بإصلاحه تلقائيًّا.

ومِن أصحاب هذا المنهج مَن لا يرى مشروعيَّة العمل الجماعي، أو يحصرونه في صورٍ محدودة لا يتعداها. وأن مضار الكيانات الإسلاميَّة -خاصة الحزبيَّة والتعصُّب لها، مع كونها مستهدفة مِن الحكومات العلمانيَّة- أكثر مِن منافعها.

ورغم ما حقَّقه أصحاب هذا المنهج مِن بعض الإيجابيات؛ إلا أنه يُؤخذ عليه التركيز على نوعٍ واحدٍ مِن الواجبات الشرعيَّة، وإهمال واجبات أخرى نصَّ عليها القرآن والسُّنة، وأجمع العلماء على فرضيَّتها، ووجوب السعي إلى إقامتها. ويُؤخذ على كثيرٍ منهم ترك الإنكار على المنكرات التي تتبناها الحكومات العلمانيَّة: كالحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشرع الله، وتضييع الولاء والبراء، والسماح أو تأييد الغزو الفكري.

كما يُؤخذ عليهم المبالغة في تضخيم سيئات الكيانات الدعويَّة، والإجحاف بمنافعها ومحاسنها، فجعلت علاج المريض قتله!

ولا يصح التعلُّل بتوفير الحماية للدعوة؛ لأنها تفقد هويَّتها إذا رأت الناس يقعون في الضلال، وهي لا تُحرِّك ساكنًا.

منهج الدعوة السلفية في التغيير:

- الدعوة إلى الإيمان بمعانيه وأركانه كلها، وتحقيق الاتباع والتزكية، وهذا أصل دعوة الرسل -عليهم السلام-.

-  تربية المجتمعات المسلمة، على منهج أهل السُّنة والجماعة، والالتزام بالإسلام عملًا، والاجتماع على إقامة فروض الكفايات المُضَيَّعة، والسعي لتحصيل أسباب القدرة فيما تعجز عنه.

- وللعلم أهميَّة خاصة، والدعوة، والواجبات الاجتماعيَّة، مع مراعاة المصالح والمفاسد.

- التمكين مِنَّة مِن الله -عز وجل- ووَعْدٌ غايته تحقيق العبوديَّة -للفرد والأمة-، والأخذ بالأسباب المقدورة لنا واجبٌ علينا، والنصر مِن عند الله، لا بالأسباب: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).