الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالمعتاد عند اختراق جماعة لجماعة أخرى أن يتم ذلك من خلال نقاط التلاقي بين الجماعتين؛ لذا فإنَّه عند تعاون جماعة مع جماعة أخرى فلا بد من التَّنَبُّه ومراعاة نقاط الخلاف، ودائرة الخلاف المقبول بينهما في الرأي وفي القضايا الأساسية، مع تحديد الثوابت التي لا تقبل التنازل أو التغيير. ومن هنا تكون دائرة المشاركة والتعاون تحكمها مصفاة ضيقة لا تسمح بدخول الشوائب المرفوضة أو التدخلات الأجنبية.
- بعد نجاح ثورة الخميني الشعبية في إيران سنة 1979، قامت المظاهرات المؤيدة للخميني في محافظة صَعْدَة باليمن، وقد نظر الزيدية إلى هذه الثورة على أنَّها ممَّا ينبغي نقل معانيها وأفكارها.
- وفي عام 1986 أنشأ العالم الزيدي (صلاح أحمد فليتة) تنظيم (اتحاد الشباب)، وكان يتم فيه تدريس مادة عن الثورة الإيرانية ومبادئها، والتي تولَّى تدريسها (محمد بدر الدين الحوثي) شقيق حسين بدر الدين الحوثي الأكبر.
- ومع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، والتي كانت الحكومة اليمنية تُساند العراق فيها، وبوفاة الخميني المتشدد عام 1989 وتولِّي الرئيس الإيراني (هاشمي رفسنجاني) الحكم في إيران، والذي تبنَّى سياسة التهدئة والسلمية، والتي تضمَّنت التغيير التكتيكي في تصدير الثورة الإيرانية للخارج من خلال التصدير الناعم للثورة الإيرانية لا العنيف، مال الزيدية في اليمن إلى التقارب مع إيران وبناء مشروع سياسي لهم، خاصة مع إقرار التعددية السياسية والحزبية التي شهدتها اليمن وقتها، ممَّا ترتَّب عليه إعلان أحزاب كثيرة جديدة في اليمن لها توجهات شتَّى. وقد تأسَّس للشيعة فيها حزبان: (حزب الحق) و(حزب القوى الشعبية). وبالرغم من وجود خلافات فكرية بين قيادة الحزبين، إلَّا أنَّهما كانا يمثِّلان غطاء سياسيًّا مساندًا لحركة الحوثي.
- في عام 1992 ظهر تنظيم (الشباب المؤمن) الذي قام على بقايا تنظيم (اتحاد الشباب)، حيث بدأ تنظيم (الشباب المؤمن) نشاطه بوصفه تيارًا شيعيًّا جديدًا في صَعْدَة، فأنشأ العديد من المراكز العلمية الصيفية التي تُدرِّس العلوم الدينية للمذهب الزيدي بإشراف عدد من علماء الزيدية. وقد أعقب تأسيسه ازدهار تنظيم (الشباب المؤمن)، وخلال تلك الفترة ترشَّح حسين بدر الدين الحوثي ، زعيم الحركة لاحقًا، في الانتخابات النيابية عام 1993 عن (حزب الحق)، وفاز فيها في دائرة من دوائر محافظة صَعْدَة.
- في عام 1995 خرج كثير من رموز حركة الحوثي المنتسبين لتنظيم (الشباب المؤمن) من (حزب الحق) بالاستقالة أو تجميد عضويتهم فيه تبعًا لخروج (بدر الدين الحوثي) منه لاختلافه مع الحزب، حيث تحالف الحوثي في تلك الفترة مع حزب (المؤتمر الشعبي العام) الحاكم، وقد ترشَّح يحيى بدر الدين الحوثي ، ابن بدر الدين وشقيق حسين الحوثي، في الانتخابات النيابية عام 1995.
- تفرَّغ حسين الحوثي لزعامة تنظيم (الشباب المؤمن) وتوسيع نشاطه في المحافظات الشمالية في اليمن، وظهرت الكثير من المراكز العلمية والأنشطة والفاعليات العلمية والثقافية، وحقق التنظيم شعبية واسعة بين الشيعة الزيدية في صَعْدَة والجوف وحَجَّة وعمران وصنعاء وذَمَار، وصاحب ذلك توجه لدفع الزيدية نحو التطرف الفكري والسياسي، وتزامن ذلك مع مظاهر لتغلغل اثني عشري في اليمن عمومًا وحركة الحوثي خصوصًا، منها:
- وجود أعداد من الإيرانيين والعراقيين في الوظائف التعليمية والصحية وغيرها في اليمن.
- انتشار الكتب والمطبوعات والمنشورات الاثني عشرية في المكتبات الزيدية لبيعها للجمهور.
- ظهور شعارات اثني عشرية في صفوف حركة الحوثي.
- القيام باحتفالات ومراسم شيعية لم تعرفها اليمن في عهود الزيدية من قبل.
- وقد ظهرت في عام 2002 شعارات حسين الحوثي (الموت لأمريكا... الموت لإسرائيل)، وظهرت حالة من المبالغة من أتباع حسين الحوثي في الحوثي والاعتناء بمحاضراته وندواته، التي كانت تُفرَّغ من أشرطة صوتية له وتُنشر كملازم وكتيبات.
- استمر التحالف والتعاون بين تنظيم (الشباب المؤمن) وبين (المؤتمر الشعبي العام) حتى عام 2003، حيث ظهرت خلافات سياسية بين الطرفين، وحدثت نزاعات حول المناطق التعليمية في محافظة صَعْدَة أدَّت إلى مواجهة مسلحة، قُتل فيها حسين الحوثي في سبتمبر 2004، ثم خاضت حركة الحوثي بعد ذلك عدة معارك متتالية مع الحكومة اليمنية، ظهرت خلالها الحركة كقوة عسكرية متنامية وكقوة طائفية لها مشروعها المذهبي والسياسي.
يتبيَّن من ذلك: أنَّ حركة الحوثي تنظيم حركي استطاع النفوذ إلى أتباع المذهب الزيدي لبناء قاعدة من الأتباع والجماهير الموالية له، حيث استطاع حسين الحوثي بناء هذا التنظيم خلال عدة سنوات منذ تولِّيه قيادة تنظيم (الشباب المؤمن)، حيث استطاع بثَّ أفكاره في أوساط أبناء المناطق الزيدية في محافظات صَعْدَة وعمران وحَجَّة والجوف، وهي أوساط تتَّسم بالأمية والتعليم المتدني، كما أنَّها ترتبط بالتعصُّب القبلي فيما بينها. وقد ربط الحوثيون تحرُّكهم هذا بإثارة أتباعهم بدعوى تعرُّض الزيدية كأقلية للتمييز العنصري والطائفي والاضطهاد ومصادرة حرياتهم، وتصوير هذا على أنَّه امتداد لتركة من الأحقاد والظلم لمناصري أهل البيت وأئمتهم. وقد عمد حسين الحوثي إلى تهيئة نفوس أتباعه على الاستعداد لمواجهة عدو خارجي، حيث عمد إلى شراء السلاح بكثرة وتخزينه وإقامة التحصينات والإعداد والتدريب القتالي حتى جعل من أتباعه جنودًا يُضحُّون من أجل أفكاره.
وقد تدفَّقت الأسلحة على الحوثيين خاصة خلال معاركهم المتتالية مع الحكومة اليمنية: فظهرت لديهم الأسلحة بأنواعها والذخيرة بدون انقطاع وبدون عوائق، ممَّا أتاح لهم مواصلة القتال وتوسيع رقعة المواجهة، وتزايد المجندين في صفوفهم، ممَّا يشير إلى وجود جهات ممولة داخليًّا وخارجيًّا، وهو ما تحدَّثت عنه الصحف الرسمية للدولة في اليمن، إلى جانب وجود الدعم والسند الشعبي الداخلي -خاصة في المناطق التي يأوي إليها الحوثيون-؛ أي: أنَّ حركة الحوثي اجتمع لها البعد الفكري والتنظيمي والدعم المالي وسند شعبي والتحالف مع جهات داخلية وخارجية مع قوة السلاح وكثرته، إلى جانب دعم إعلامي من صحف الأحزاب الشيعية وصحف المعارضة والصحف المستقلة والمواقع الإلكترونية. هذا كله في إطار استلهام زعيم الحركة حسين الحوثي لفكر الخميني الثوري، واعتبار حزب الله اللبناني الموالي لإيران مصدر إلهام لحركته. يقول عبد الملك الحوثي: (نحن ننظر إلى الإخوة المجاهدين في حزب الله -أي: حزب الله في لبنان- بعين الإكبار والإجلال ونكن لهم كلَّ المودة والتقدير، ونعدهم شرفًا للأمة الإسلامية وسادة للمجاهدين في العالم، ونأسف للموقف السلبي من بعض الأنظمة العربية تجاههم) (ينظر: بعد الثورة الشعبية اليمنية: إيران والحوثيون مراجع ومواجع، أحمد أمين الشجاع - الباحث في مركز الجزيرة للدراسات والبحوث - صنعاء - ط. مجلة البيان 1434هـ - ط. أولى - ص 32. نقلًا عن صحيفة الأخبار اللبنانية في 4-7-2008م).
موقف الحكومة اليمنية:
- انتابت الدولة اليمنية المخاوف تجاه تنظيم (الشباب المؤمن)؛ لكونه له علاقات مع قوى وأحزاب معارضة في البلاد في الوقت الذي يجد فيه الدعم المادي والمساندة من الدولة، بل صار يبدو كقوة مناهضة للدولة من خلال رفعه شعارات (الموت لأمريكا... الموت لإسرائيل)، والتي تُؤدَّى أحيانًا في أداء جماعي من خلال مراسيم تشبه ما يتبعه الحرس الثوري الإيراني والتنظيمات الموالية له، ممَّا يسبِّب إحراجًا للدولة مع واشنطن.
- وقد اتَّخذ الحوثيون من شعارهم: (الموت لأمريكا... الموت لإسرائيل) غطاءً؛ لحثِّ أتباعهم على الاستعداد القتالي والمسلح واستعراض القوة، مع بقاء العداء موجَّهًا لتيارات أخرى داخل الدولة يتم تصفية الحساب معها على أنَّها عميلة.
- وقد عمد الحوثيون إلى الخروج بالسلاح في الاحتفالات الدينية المألوفة أشبه باستعراض للقوة. وممَّا أثار الريبة قدرة حركة الحوثيين على تدبير ميزانية تكفي لتدريس ولتدريب أكثر من 15 ألف شاب في أكثر من 60 مركزًا، بما يفوق إمكانيات الحركة وما قد تجمعه من أموال الأهالي في صَعْدَة وما حولها وغالبيتهم من الفقراء، وما يثيره ذلك من خطر وجود جهات خارجية وراء تلك الأنشطة.
- تزايد التغلغل الحوثي في المرافق الحكومية وأجهزة الدولة المدنية والعسكرية خاصة في المرافق التعليمية في محافظة صَعْدَة وعمران وصنعاء والجوف.
- ثم كان التظاهر أمام السفارة الأمريكية عام 2003، والذي صاحبه اشتباكات وسقوط قتلى وجرحى.
- ومع تعمُّد التصعيد لإثبات الوجود والشحن الفكري على خلفية مذهبية في وقت ظاهره التحالف مع الدولة، بدأت مقدمات الصدام والمناوشات المسلحة بين الطرفين.
جولة القتال الأولى بين الطرفين:
نشأ القتال بين الطرفين (الدولة وأتباع حسين الحوثي) إثر مناوشات مسلحة قام بها أتباع حسين الحوثي مع قوة حكومية مسلحة في يونيو عام 2004، قُتل فيها أتباع الحوثي ثلاثة جنود؛ ممَّا تسبَّب في الاقتتال الفعلي بين الطرفين في 19 يونيو.
وقد ذكرت وزارة الخارجية اليمنية أنَّ الدافع وراء قتال الدولة للحوثي وأتباعه يرجع إلى الاعتداء على المؤسسة العسكرية وأفراد من القوات المسلحة اليمنية، مع التحريض والشغب والترويج لأفكار متطرفة. وسرعان ما عمد إعلام الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) إلى شن حملة إعلامية وتضخيم الأمر بزعم ادعاء الحوثي المهدية والإمامة.
وفي 30 يونيو أصدر مجلس الوزراء اليمني قرارًا بإغلاق جميع مدارس التعليم الديني خارج نظام التعليم الديني الرسمي، وشنَّت سلطات الأمن سلسلة من الاعتقالات لأعداد كبيرة من المشتبه في انتمائهم إلى حركة الحوثي في أكثر من محافظة. وتصاعدت المواجهة العسكرية ولم تفلح جهود الوساطة القبلية أو السياسية في وقف القتال. ورغم أنَّ الدولة فوجئت بأنَّها لم تكن تُقدِّر حجم قوة الحوثي الحقيقية، إلَّا أنَّها نجحت في السيطرة على القمم الجبلية التي كانت بيد الحوثيين، ثم تمكَّنت الدولة في 24 أغسطس من اقتحام قرية الحوثي (مقر قيادته) إلى أن قُتل حسين الحوثي في 9 سبتمبر 2004، وأُعلن رسميًّا في اليوم التالي عن مقتله لتنتهي الجولة الأولى من المواجهات الدامية بين الدولة والحوثيين في صَعْدَة.
وقد كشفت تلك الأحداث عن صلابة التيار الحوثي وتماسكه، حيث صمد في مواجهة الدولة لفترة رغم فارق الإمكانيات، كما أبرزت مدى تغلغل حركة الحوثي في البلاد.
الجولة الثانية من القتال:
حاولت مجموعة من قوات الجيش اليمني إيقاف بعض أتباع الحوثي الذين أقدموا على عقد صفقة سلاح بسوق مديرية الطَّلْع في صَعْدَة، وأدَّى الأمر إلى صدام مسلح جديد كان الشرارة لجولة ثانية من القتال بين الطرفين. وقد استخدمت الدولة في هذه الجولة الطائرات والأسلحة الثقيلة، وردَّ الحوثيون بعنف مماثل، ممَّا أدَّى إلى مقتل عدد كبير من ضباط القوات المسلحة. وقد تولَّى (بدر الدين) الأب قيادة الحوثيين في هذا القتال في تحد جديد للسلطات اليمنية. وحُسمت الجولة في 12 أبريل 2005 بعد السيطرة على أوكار المتمردين الحوثيين، ونجاح بدر الدين الحوثي في الفرار، وتم إجبار كثير منهم على التسليم وإلقاء السلاح. وقد خلَّفت تلك الجولة مئات القتلى وآلاف الجرحى وخسائر مادية كبيرة قُدِّرت بمئات الملايين من الدولارات.
الجولة الثالثة من القتال:
رغم محاولات التهدئة ونزع فتيل الأزمة، فلم تهدأ الأمور، إذ نصبت مجموعة من الحوثيين كمينًا لقوة عسكرية في مديرية (سَحَار) أسفر عن مقتل ثلاثة جنود وجرح خمسة عشر آخرين، وسارع عبد الملك بن بدر الدين الحوثي القائد الجديد للحوثيين باتهام الرئيس اليمني بعزمه على شن حرب على الحوثيين، وأعرب عن استعداده التام للمواجهة، واندلعت المعارك من جديد، وعمدت قوات الحوثيين إلى استهداف شيوخ القبائل الذين تعتقد فيهم الولاء للدولة، مع التمسُّك بالتواجد في السلاسل الجبلية، بينما عمدت السلطات الحكومية إلى استخدام المروحيات وتكثير مناطق القتال، وشاركت قبائل في الصراع بالقتال مع الدولة ضد الحوثيين، وارتفعت حدة المعارك. وفي محاولة لتفادي استمرار الحرب، قامت السلطات بعدة مبادرات، منها إطلاق سراح محمد بدر الدين الحوثي شقيق حسين الحوثي. وفي 28 فبراير 2006 انتهت الجولة الثالثة بتوقيع اتفاق صلح، طرفه الأول عبد الملك الحوثي وطرفه الثاني محافظ محافظة صَعْدَة المعين من قبل الدولة، إذ أنَّه كان له قبول لدى الحوثيين بوصفه هاشمي النسب، وقد لعب دورًا في الوساطة وتهدئة الأوضاع. وبمقتضى الصلح، تم الاتفاق على توقف الأعمال العسكرية بين الطرفين.
وقد شاب استمرار الاتفاق تخزين الحوثيين للسلاح وإعادة الانتشار، وكأنَّهم يترقَّبون جولة أخرى من القتال، بينما قامت الدولة بمداهمات واعتقالات لحوثيين خاصة في أواسط نفس العام.
وقد شهد هذا العام -عام 2006- الانتخابات الرئاسية لمرحلة رئاسية جديدة في اليمن، والتي سارت بهدوء، تفرَّغت فيه السلطة لإدارة الانتخابات الرئاسية والمحلية أمام المعارضة، زامن ذلك مهادنة مع الحوثيين، سمحت فيها الحكومة للحوثيين بإقامة احتفالاتهم في ذي الحجة (يوم الغدير) عند الشيعة، كما صرفت لهم دعمًا ماديًّا.
الجولة الرابعة من القتال:
رغم حالة المهادنة بين الرئيس علي عبد الله صالح والحوثيين، عاد الحوثيون للقيام بأعمال استفزازية جديدة في يناير 2007، ثم بادروا بمهاجمة قوات يمنية وأوقعوا بها خسائر في الأرواح والعتاد، ممَّا أثار علي صالح، معلنًا تجاوز الحوثيين الخطوط الحمراء، وطالبهم بتسليم أسلحتهم، فما كان منهم إلَّا أن قاموا باستنفار قواتهم للمواجهة، وقاموا بتوسيع دائرة القتال بشن هجوم على كل الجبهات، فكثَّفت القوات الحكومية هجماتها مستخدمة الدبابات والأسلحة الثقيلة. وقرَّر مجلس النواب اليمني في تحرُّك جاء متأخِّرًا كثيرًا وبعد مناقشات حسم المسألة مع الحوثيين عسكريًّا. واستمرت المواجهات عدة أشهر، دارت خلالها محاولات خفية للصلح، ظهرت نتائجها في أواسط شهر يونيو باتفاق مبدئي، حصل تلكؤ في تنفيذه، وبقيت المناوشات بين الطرفين حتى نهاية الشهر، ثم عادت الاشتباكات خلال شهر يوليو، ومن خلال وساطة قطرية تجدَّدت المهلة للمتمردين، ومع اشتداد المواجهات في شهر ديسمبر، والتي استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة بكل أنواعها، جاءت دعوة عبد الملك الحوثي لمواصلة الحوار الجدي، وكانت زيارة رئيس الوزراء اليمني لقطر لتحريك الوساطة القطرية لاستئناف التفاوض، وشهدت بداية يناير عام 2008 مزيدًا من التصعيد، فسَّره البعض بقرب جولة من المفاوضات.
وبالفعل تم توقيع اتفاقية في (الدوحة) عاصمة قطر في أول فبراير عام 2008 بين الطرفين بوساطة ومشاركة قطر، وصدر توجيه رئيس الجمهورية بإيقاف إطلاق النار في كل الجبهات، وبدأ الجيش في الانسحاب من الأماكن محل النزاع، وبدخول الاتفاقية حيز التنفيذ، بلغت الجولة الرابعة من القتال نهايتها.
الجولة الخامسة من القتال:
لم تنعم البلاد باتفاقية الدوحة، إذ سرعان ما دبَّ الخلاف حول آليات تنفيذ الاتفاقية. وفي أواخر أبريل 2008، اغتيل عضو مجلس نواب من المؤتمر الشعبي العام، تلاه في الثاني من مايو تفجير مجهولين لدراجة مفخخة أمام مسجد في صَعْدَة، أسفر عن مقتل وإصابة عشرات، منهم أفراد من القوات المسلحة، واتَّهمت الدولة الحوثيين بارتكاب ذلك، ونفى الحوثيون الاتهام، ونشب القتال من جديد، وانتقل القتال في تطور وُصف بأنَّه خطير إلى محافظة (عمران) الواقعة بين صَعْدَة وصنعاء، ودارت معارك شرسة، استخدمت فيها الدولة الطائرات والأسلحة الثقيلة، ثم انتقل القتال إلى ضواحي صنعاء من خلال اشتباكات متقطعة. وقد تعرَّضت محافظة صَعْدَة إلى قصف جوي ومدفعي، في حين هاجم الحوثيون معسكرات للجيش في محافظة الجوف، واستمر القتال أحيانًا يخف وأحيانًا يزداد، حتى أعلن الرئيس علي صالح وقف القتال. وذكر وقتها أنَّه كانت هناك وساطات محلية من أبناء صَعْدَة، أدَّت إلى تفاهمات بشأن هدنة لإيصال الأغذية والأدوية للأهالي في صَعْدَة، أعقبها قرار من السلطة أثناء الهدنة بوقف القتال. وذكر أنَّ رئيس الجمهورية قد حدَّد نقاطًا لإعلان وقف العمليات العسكرية في صَعْدَة معقل الحوثيين، وأعلن عبد الملك الحوثي التزامه بها.
الجولة السادسة من القتال:
لم تَسْلَم الأشهر التالية من تصريحات وبيانات بين السلطة والحوثيين مع خروقات ميدانية أحيانًا وتبادل الاتهامات، بما ينذر باندلاع القتال من جديد. وفي 12 يونيو 2009، تم اختطاف تسعة أجانب في محافظة صَعْدَة يعملون في مجال الإغاثة الطبية، اتَّهمت السلطة جماعة الحوثي باختطافهم، ورجَّحت ألمانيا -إذ كان من بين المختطفين سبعة من الألمان- أن يكون تنظيم القاعدة وراء العملية. وفي 12 أغسطس عام 2009، بدأ القتال من جديد بتكثيف القصف الجوي على مناطق للحوثيين، حيث يحكم الحوثيون سيطرتهم على مساحات شاسعة من محافظة صَعْدَة، منها منافذ إمدادات للجيش في المدينة. وفي منتصف أغسطس، زحفت القوات الحكومية نحو المواقع التي تسيطر عليها حركة الحوثي، ودخلت معهم في اشتباكات مباشرة، مع شن عمليات في محافظة عمران على معاقل للحوثيين لفتح الخط أمام الإمدادات التموينية لصَعْدَة.
وقد اتَّهمت الحكومة الحوثيين بتلقِّي دعم خارجي مالي وإعلامي وسياسي، مشيرة إلى تدخُّل وسائل الإعلام الشيعية الإيرانية والعراقية في الشأن الداخلي اليمني وانحيازها الواضح للحوثيين، بينما اتَّهم الحوثيون السعودية بقصف مناطق للحوثيين وبالتدخُّل في الشأن اليمني، بما يعد توريطًا للقوى الإقليمية في الصراع السياسي والعسكري بين الطرفين.
قام حوثيون بالتسلُّل ومهاجمة موقع سعودي على الحدود السعودية اليمنية، ممَّا تسبَّب في مقتل جندي سعودي وإصابة آخرين، واتَّهموا السلطات السعودية بالسماح للجيش اليمني بمهاجمة مواقع للحوثيين في شمال اليمن من أراضيها، كما اتَّهموا الطيران السعودي بشن غارات جوية على مناطق في صَعْدَة وعلى قرى مجاورة للحدود السعودية مع اليمن، ونفى الجيش اليمني هذه الاتهامات، بينما ردَّت السعودية على هجوم الحوثيين ردًّا عنيفًا برًّا وجوًّا، ما جعل زعيم الحوثيين يعلن في 25 يناير 2010 وقف إطلاق النار مع السعودية وانسحاب الحوثيين من الأراضي السعودية التي دخلوها.
وفي 11 فبراير عام 2010، أعلن علي صالح وقف العمليات العسكرية في صَعْدَة بناء على التزام عبد الملك الحوثي تنفيذ النقاط المعلنة لإيقاف العمليات العسكرية. وفي نفس اليوم، أعلن زعيم الحوثيين إيقاف إطلاق النار تزامنًا مع التوقيت المعلن من الحكومة.
وتعد هذه الجولة من القتال أطول جولات القتال الست بين الطرفين وأكثرها دموية؛ حيث امتدَّت لتشمل المحافظات المجاورة لصَعْدَة وصولاً إلى الحدود السعودية، بل وداخل السعودية نفسها (للاستزادة راجع المصدر السابق، ص 35-80).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.