كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا . مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء: 45، 46).
قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ) هو في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولكن اليهود هم أكثر من قام بذلك، فهم على طول الطريق يشترون الضلالة؛ قد اختاروا لأنفسهم الضلالة، فلا شك إذًا في أنهم على ضلال وباءوا بغضب من الله مع الضلال، فكلا الطائفتين المغضوب عليها وضالة؛ وإن كان اليهود أخص بالغضب، والنصارى أخص بالضلال.
وقوله -تعالى-: (وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يخبر الله -تعالى- عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- ليشتروا به ثمنًا قليلًا من حطام الدنيا. (وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي: يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) أي: هو يعلم بهم ويحذركم منهم. (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) أي: كفى به وليًّا لمن لجأ إليه ونصيرًا لمن استنصره.
ثم قال -تعالى-: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) (مِن) هذه لبيان الجنس كقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج: 30) (قلتُ: تحتمل أن تكون للتبعيض؛ لأن من أهل الكتاب (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) مَن آمنوا وحسن إسلامهم كحبرهم وعالمهم: عبد الله بن سلام، وكذا كعب الأحبار؛ فهو من أوثق التابعين -رحمه الله تعالى-، وكذا محمد بن كعب القرظي؛ فهؤلاء جميعًا ممَّن آمن من علماء أهل الكتاب)
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) أي: يتأولون على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله -عز وجل-، قصدًا منهم وافتراء. (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) أي: يقولون سمعنا ما قلتَه يا محمد ولا نطيعك فيه! هكذا فسره مجاهد وابن زيد، وهو المراد، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم؛ أنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه، وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة.
وقوله: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي: اسمع ما نقول لا سمعت. رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد والحسن: واسمع غير مقبول منك. قال ابن جرير: والأول أصح، وهو كما قال. وهذا استهزاء منهم واستهتار -عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين-.
(وَرَاعِنَا) أي: يوهمون أنهم يقولون: راعنا سمعك بقولهم : (رَاعِنَا) وإنما يريدون الرعونة. وقد تقدم الكلام في هذا عند قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا) (البقرة: 104)؛ ولهذا قال -تعالى- عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه: (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) يعني: بسبهم النبي -صلى الله عليه وسلم-. (قلتُ: الظاهر أن قولهم: (رَاعِنَا) كما حققه غير واحد من العلماء باللسان العبري أنه بمعنى: أنت شرُّنا، وهذا أسوأ مما ذكره ابن كثير -رحمه الله- من معنى الرعونة، بل يزعمون أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- شر مَن في المدينة! نعوذ بالله من كفرهم وشركهم).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ثم قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي: قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم، وقد تقدَّم الكلام على قوله -تعالى-: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 88)، والمقصود: أنهم لا يؤمنون إيمانًا نافعًا" (انتهى من ابن كثير).
وقول الله -عز وجل-: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا): واضح الدلالة على أن المسلمين لن يجدوا مَن يساعدهم؛ فكفى بالله -عز وجل- معهم ولهم وليًّا، وكفى بهم نصيرًا؛ فحينما يقول أحد عن اليهود والنصارى: هؤلاء أصدقاءنا! نقول له: والله أعلم بأعدائكم؛ الله -تبارك وتعالى- هو مَن أخبرنا أن الذين أوتوا الكتاب هم أعداؤنا.
فلا يظنن أحدٌ أنه سيخدعنا فيقول: أصدقاؤنا اليهود، وجيراننا اليهود، وأحبابنا اليهود، وأبناء عمنا اليهود، والدين الإبراهيمي الجديد الذي نشترك فيه، ونحن مع إسرائيل ونتعاطف معهم ضد الهجمات الهمجية البربرية؛ لا يمكن أن يقول مسلم حقيقةً هذا الكلام، ويصرِّح أنه مع الكفار ضد المسلمين، مع أنه قد يكون هناك اجتهاد في توقيت مهاجمة الأعداء عسكريًّا، ومدى مصلحته وضرره ومفسدته، ولكن موالاة اليهود وزعم أننا معهم ضد أهل الإسلام ولو أخطأوا؛ ولو حتى انحرفوا؛ فهذا لا يصح أبدًا؛ قال الله -عز وجل-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.