كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
رابعًا: شبهات وردود حول مشروعية العمل الجماعي المؤسسي التعاوني:
العجيب أنه بالرغم مما ذكرناه من الأدلة العقلية والشرعية على مشروعية وأهمية العمل الجماعي المؤسسي التعاوني؛ إلا أننا نجد البعض ممن يريد أن يصرف العاملين في الحقل الإصلاحي عن هذا المسار المؤسسي الذي قد يتعارض مع ميوله أو توجهاته أو قناعاته يطرح العديد من الشبهات الشرعية التي قد تؤثر في قناعات المتحمسين لهذا المسار الإصلاحي المؤثر.
ومن هذه الشبهات التي تحتاج إلى رد:
الشبهة الأولى:
استدلالهم بظاهر النصوص التي تنهى عن الفُرقة، كقول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء) (الأنعام: 159)، وقوله -تعالى-: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 31، 32)، وقوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103).
ولبيان الرد على هذه الشبهة نقول:
بالرجوع إلى كتب التفاسير المعتمدة لن نجد أحدًا من المفسرين قال: إن هذه الآيات تنهى عن اجتماع بعض المسلمين، وتعاونهم على طاعة من الطاعات: كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تعلم العلم أو قضاء حوائج المسلمين، إلخ، وإنما نزلت هذه الآيات في التحذير من الابتداع في الدين أو التعاون على البدع والمنكرات مما يفرق المسلمين ويجعلهم شيعًا وأحزابًا كاليهود والنصارى أو كالروافض والقدرية والخوارج، وغيرهم من الفرق الضالة.
قال الإمام الطبري -رحمه الله- في تفسيره: "اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) (الأنعام: 159)، فقال بعضهم: عني بذلك اليهود والنصارى. وقال آخرون: عني بذلك أهلَ البدع من هذه الأمة، الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه" (تفسير الطبري).
وقال الإمام الطبري أيضًا: "وقوله: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا) ولا تكونوا من المشركين الذين بدّلوا دينهم، وخالفوه ففارقوه، (وكانوا شِيَعًا) يقول: وكانوا أحزابًا فرقًا كاليهود والنصارى" (تفسير الطبري).
وقال أيضًا في قوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا): "(وَلا تَفَرَّقُوا) أي: ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه، من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والانتهاء إلى أمره" (تفسير الطبري).
وقال الإمام ابن كثير في تفسيره لقوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء): "والظاهر: أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفًا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه (وَكَانُوا شِيَعًا) أي: فرقا كأهل الملل والنحل -وهي الأهواء والضلالات-، فالله قد برأ رسوله مما هم فيه".
وقال ابن كثير أيضًا: "وقوله: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي: لا تكونوا من المشركين الذين قد فرَّقوا دينهم؛ أي: بدلوه وغيروه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقرأ بعضهم: "فَارَقُوا دِينَهُم"؛ أي: تركوه وراء ظهورهم، وهؤلاء كاليهود والنصارى، والمجوس، وعبدة الأوثان، وسائر أهل الأديان الباطلة، مما عدا أهل الإسلام".
وقال الشيخ جمال الدين القاسمي في تفسيره: "(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي: اختلفوا فيه، مع وحدته في نفسه، فجعلوه أهواء متفرقة (وَكانُوا شِيَعًا) أي: فرقا تشيع كل فرقة إمامًا لها بحسب غلبة تلك الأهواء، فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع".
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: "(الذين فرقوا دينهم) أي: شتتوه وتفرقوا فيه، وكلٌّ أخذ لنفسه نصيبًا من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئًا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية، أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئًا ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة".
فهذا هو فهم السلف الصالح لهذه النصوص، ونحن مأمورون بفهم القرآن والسنة كما فهمه سلف الأمة؛ فأين هؤلاء الملقون لهذه الشبهة الواهية من فهم السلف الصالح لهذه النصوص؟!
وللحديث بقية -إن شاء الله-.