كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي خلال الفترة بعد حرب 1948 التي انتهت باستيلاء اليهود على نحو 80% من أرض فلسطين التاريخية ونزوح أكثر من 700 ألف فلسطيني منها فرارًا من المذابح التي انتهجتها العصابات الصهيونية ضد المدنيين العزل لإجبارهم على ترك أراضيهم فيما عُرِف باسم: (نكبة فلسطين)، وما ترتب عليها من ظهور قضية (اللاجئين الفلسطينيين)، وحتى اندلاع حرب يونيو 1967، وضعت الضفة الغربية لنهر الأردن تحت إدارة الأردن، بينما وضع قطاع غزة تحت إدارة مصر، واعتبر وقتها تحرير فلسطين المحتلة هدفًا عربيًّا يتم تناول القضية الفلسطينية خلاله في إطار صراع عربي - إسرائيلي، في ظل صعود الحركة القومية العربية وغلبة التيار القومي العربي وقتها.
وأصبح تطلع الفلسطينيين لاستردادهم حقوقهم المسلوبة مرهونًا بالأمة العربية وتحقق الوحدة العربية المرتقبة، لذا لم يكن مطروحًا وقتها إقامة أي كيان وطني فلسطيني (دولة فلسطينية) عبر نضال فلسطيني؛ رغم أن الضفة الغربية وقطاع غزة كانتا تحت إدارة مصر والأردن.
تم هذا رغم أنه كان هناك أكثر من حركة وطنية فلسطينية سابقة قادت النضال الوطني خلال فترة الانتداب البريطاني في مواجهة بريطانيا ومواجهة الهجرة اليهودية الجماعية المتزايدة إلى أرض فلسطين، والدعم البريطاني لإقامة وطن لليهود فيها.
وقد اتخذ نضال الفلسطينيين صورًا متعددة: صورة حركة سياسية تقليدية من الوجهاء وكبار الشخصيات من خلال تقديم العرائض والاحتجاجات لسلطة الانتداب البريطاني دون استخدام للقوة المسلحة، وصورة الثورة الشعبية المؤثرة كما في ثورة عام 1936 والتي امتدت إلى عام 1939، وتوقفت بتدخل الحكومات العربية المحافظة بالضغط على الحركة الوطنية الفلسطينية لإيقاف هذه الثورة الشعبية، مما أغلق باب النضال الفلسطيني الشعبي وقتها، والذي كان يجب أن ينمى ويدعم، لا أن يعارض أو يوقف، واتخذ أيضًا صورة القتال والكفاح المسلح كما في نضال عز الدين القسام -رحمه الله-.
وفي مؤتمر القمة العربي عام 1964 اتجه العمل العربي إلى إبراز الشخصية الفلسطينية بعد تعثر استمرار حكومة عموم فلسطين من خلال إنشاء كيان سياسي جديد أطلق عليه: (منظمة التحرير الفلسطينية)، والتي ظهرت رسميًّا عام 1965 برئاسة (أحمد الشقيري)، وكان قيام حركة التحرير الفلسطينية (فتح) بأول عملية فدائية ضد إسرائيل في الأول من يناير 1965 إيذانًا ببدء انطلاق العمل الفلسطيني المسلح الذي طال انتظاره، وهو التحول الذي ازداد بعد هزيمة يونيو1967، والذي يعد نقلًا للصراع إلى أرضيته الصحيحة؛ حرب تحرير فلسطينية يقودها الفلسطينيون أنفسهم ويدعمها العرب ماديًّا ومعنويًّا.
وقد تم إنشاء الدوائر والمكاتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في عواصم الدول العربية وغيرها، وتم بث محطة إذاعة (صوت فلسطين) من القاهرة، وكذلك إنشاء مركز أبحاث للمنظمة في بيروت لإثراء الفكر الفلسطيني والتعريف بالحق الفلسطيني وحقيقة الكيان الصهيوني، إلى جانب تشكيل قوات من الفدائيين مسلحة ومدربة، وعبر سنوات طويلة قامت المنظمة بعمليات فدائية ضد العدو الإسرائيلي داخل فلسطين المحتلة وخارجها. وفي عام 1974 تقرر في مؤتمر القمة العربي الذي أقيم في الرباط بالمغرب اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وفي نفس العام اعترفت أيضًا الأمم المتحدة بالمنظمة ممثلة للشعب الفلسطيني، كما حصلت المنظمة على صفة مراقب في منظمة الأمم المتحدة.
ومنظمة التحرير منظمة تجمع كل الفصائل العسكرية والشعبية الفلسطينية وتهيمن عليها منظمة (فتح)، وبعد استقالة (أحمد الشقيري) من رئاسة منظمة التحرير عام 1969 تولى (ياسر عرفات) رئاسة المنظمة، واحتفظ برئاستها حتى وفاته عام 2002م.
ونظرًا لعدم قدرة المقاومة الفلسطينية المسلحة على إقامة قواعد رئيسية للقيام بعملياتها العسكرية منها، خاصة بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو1967، فقد جعلت المقاومة قواعدها العسكرية في الدول العربية التي لها حدود مشتركة مع إسرائيل تسمح بذلك، وهي الأردن ولبنان وسوريا، ولكن أخطاء المقاومة الفلسطينية المتمثلة في عدم التنسيق مع أنظمة الدول التي تعمل من أراضيها، والتدخل أحيانًا في شئونها الداخلية، سرعان ما ساهمت في توتر العلاقات بين تلك الدول ومنظمة التحرير وبدرجات متفاوتة، لم تساعد على استمرار احتضان هذه الدول للمقاومة الفلسطينية، مع ظهور تناقض بين متطلبات وجود هذا النشاط الفلسطيني المسلح وبين أنظمة حكم دول الطوق، فتم تصفية الوجود العلني للمقاومة الفلسطينية في الأردن في عام 1971، وتحجيم أنشطة المنظمة في سوريا، وتكوين تنظيمات فلسطينية خاضعة للنظام السوري تدين له بالولاء.
وعقب اجتياح إسرائيل للبنان في 1982 تم إجبار منظمة التحرير على مغادرة بيروت وجنوب لبنان، وقد أعقب نهاية حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) وإخراج القوات العراقية من الكويت ومن خلال جهود أمريكية بدء مفاوضات متعددة الأطراف أسفرت عن توقيع إعلان مبادئ للترتيبات الانتقالية لحكم ذاتي فلسطيني في قطاع غزة وأريحا ونقل السلطة فيهما للفلسطينيين بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلية منهما كخطوة تمهيدية، تم توقيع الإعلان في سبتمبر 1993 في واشنطن، مع اعتراف متبادل بين منظمة التحرير برئاسة (ياسر عرفات) ممثلة للشعب الفلسطيني، وليست ممثلة للدولة الفلسطينية، ودولة إسرائيل ممثلة في (إسحاق رابين) رئيس وزرائها في ذلك الوقت.
وفي 4 نوفمبر تم اغتيال إسحاق رابين على يد متطرف إسرائيلي، فتولى بعده شيمون بيريز الحكومة الإسرائيلية، وفي 25 أبريل 1996م وافق المجلس الوطني الفلسطيني على حذف مواد الميثاق الوطني الداعية إلى القضاء على دولة إسرائيل!
التحرك السياسي لمنظمة التحرير:
لقد قامت منظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات كما جاء في ميثاقها الوطني بتبني الكفاح المسلح كوسيلة لتحرير كامل أرض فلسطين من النهر (نهر الأردن) إلى البحر (البحر المتوسط) وإقامة دولة علمانية يعيش فيها المسلمون واليهود والنصارى على حد سواء، ثم في السبعينيات ظهرت الدعوة إلى إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي أرض تتحرر من الاحتلال لتمكين الشعب الفلسطيني من قيام دولة على أرضه يديرها بنفسه للوقوف في وجه النزعة الاستعمارية اليهودية في فلسطين، ولهذا وافق المجلس الوطني الفلسطيني في يونيو 1984م على فكرة إنشاء سلطة وطنية على أي أجزاء تتحرر من الأراضي الفلسطينية باعتبارها خطوة نحو إقامة دولة فلسطينية.
وفي المقابل: كانت إسرائيل لا تعترف بمنظمة التحرير، بل ولا تعترف بوجود شعب فلسطيني، وكانت ترى في الأردن التي أعلن ملكها (عبد الله الأول) ضم الضفة الغربية إلى الأردن عقب حرب 1948م هي الوطن البديل للاجئين الذين تركوا أراضيهم وديارهم خلال حرب 1948م وبعد حرب يونيو 1967م، أي: أن القضية الفلسطينية لا تعدو أن تكون قضية عرب لاجئين تحل بضمهم إلى المملكة الأردنية؛ هذا بينما كانت أمريكا تشترط على منظمة التحرير الفلسطينية الاعتراف بدولة إسرائيل للمشاركة في أي مساعي دولية وقبول قرار مجلس الأمن رقم 242 وترك العمل المسلح، مع البحث عن صيغة تشترك فيها الأردن في التفاوض بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولتحريك الموقف سياسيًّا أعلن ملك الأردن الملك حسين إنهاء الروابط الإدارية والقانونية للأردن مع الضفة الغربية في يوليو 1988، ليسقط بذلك أي خيار سياسي يقوم على تسوية إقليمية للقضية الفلسطينية بمشاركة أردنية، وبالتالي منح الفرصة كاملة لمنظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني للتحرك المستقل دوليًّا، وعليه أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في اجتماعه بالجزائر في نوفمبر 1988م قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس، مع الدعوة لعقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة، ومشاركة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ومشاركة كل أطراف النزاع بما فيها منظمة التحرير لحل القضية الفلسطينية على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338، وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة ومنها حقه في تقرير مصيره وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة ومبدأ عدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة.
وعلى ذلك ألقى عرفات كلمته في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في جينيف في ديسمبر 1988 مؤكدًا على قبول منظمة التحرير للقرارين 242 و338، ونبذ العمل المسلح، وهو ما اعتبرته أمريكا كافيًا للدخول في حوار مع منظمة التحرير، خاصة مع فشل إسرائيل وقتها في إيقاف الانتفاضة الشعبية الفلسطينية عام 1987م، وهو ما أسفر عن المفاوضات حول الحكم الذاتي الانتقالي الفلسطيني الذي يعقبه المفاوضات النهائية حول القدس وإقامة الدولة الفلسطينية.
ساهمت الأوضاع العربية المتردية والشعور بالإحباط عقب احتلال العراق للكويت ثم حرب تحرير الكويت وهزيمة العراق فيها، وما شهدته هذه الفترة من رفض عرفات إدانة غزو العراق للكويت الذي أضر بصورة منظمة التحرير دوليًّا، وأدى إلى تدهور علاقة المنظمة مع دول الخليج العربي وفتور علاقة المنظمة مع دول عربية أخرى، مما أوقع المنظمة في عزلة كانت كفيلة لجعل عرفات قابلا للضغط عليه وقبوله ما لم يكن يقبله من قبل، وزاد الأمر سوءًا سقوط الاتحاد السوفيتي، وهو ما أفقد القضية الفلسطينية الدعم الروسي، فقادت أمريكا مفاوضات بين إسرائيل ووفد أردني فلسطيني مشترك في ظل شروط حكومة شامير (حزب الليكود) اليمينية، والتي قبلتها منظمة التحرير على مضض، على أن تكون على مرحلتين: الأولى حول فترة انتقالية مدتها خمس سنوات من الحكم الذاتي الفلسطيني، والثانية تبدأ مفاوضتها قبل بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية، حول المفاوضات النهائية للمشكلة والوصول للسلام الشامل والدائم للقضية الفلسطينية.
ثم جاءت المفاوضات مع حكومة حزب العمل الإسرائيلية بقيادة (رابين) بدون شروط مسبقة والتي شاركت فيها منظمة التحرير بوفد، ثم بدأت اللقاءات السرية التي شهدتها النرويج (في أوسلو)، والتي انتهت بإعلان المبادئ للفترة الانتقالية والاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، وهو ما أتاح لمنظمة التحرير موضع قدم في غزة وأريحا تمارس منه السلطة داخل الأراضي الفلسطينية.
وفي الواقع أن إسرائيل قبلت الانسحاب من غزة بسبب الأعباء الأمنية الباهظة التي تتحملها إسرائيل بسبب احتلال قطاع غزة دون عائد اقتصادي أو استراتيجي يبرر الاحتفاظ بها، خاصة مع الكثافة السكانية الفلسطينية فيها والتي تجعل من الصعب ضمها لإسرائيل إلى جانب ضعف اقتصاد القطاع.
أما بالنسبة لأريحا فقبلت إسرائيل الانسحاب منها؛ لأنها خالية من المستوطنات الإسرائيلية وليست بعيدة عن القدس فهي مغرية للفلسطينيين، كما أنها قريبة كذلك من نهر الأردن مما يفتح الباب في المستقبل لإمكانية قيام اتحاد بين الأردنيين والفلسطينيين، وأجل إعلان المبادئ مناقشة المسائل الصعبة التي كانت تشكل العقبات الكبرى وقرر إرجاء بحثها إلى مفاوضات الوضع النهائي كالقدس واللاجئين والمستوطنات والحدود النهائية والترتيبات الأمنية والعلاقات الفلسطينية مع دول الجوار، حيث كانت مواقف الجانبين فيها متباعدة بدرجة كبيرة يصعب معها إيجاد حلول وسط بشأنها، وجاءت موافقة منظمة التحرير على إرجاء بحث هذه المسائل بمثابة تغير في مواقفها.
كانت حماس قد دخلت معمعة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي مع تنامي الصحوة الإسلامية والتراجع المطرد للحركة الفلسطينية الوطنية العلمانية، وقد عملت حماس باستقلالية دون اندماج مع الحركات الفلسطينية الأخرى، وإن أقرت في ميثاقها أن منظمة التحرير أقرب الحركات إليها، ورغم معارضة حماس لاتفاق أوسلو، لكنها انضمت مع بقية المعارضين له في انتظار ما سيسفر عنه في ظل عدم تقديم بديل؛ لذا ظهرت ونمت سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود (السلطة الفلسطينية)، وفي 11 نوفمبر 2004 توفي ياسر عرفات بعد رحلة مرض، وانتخب محمود عباس (أبو مازن) خلفًا لعرفات في رئاسة منظمة التحرير والسلطة التنفيذية في انتخابات قاطعتها حماس.
وفي مارس 2005م تم التوصل إلى (اتفاق القاهرة) بين قيادات الفصائل الفلسطينية الذي يقضي بهدنة مع العدو الإسرائيلي، وتشكيل لجنة تتولى إعادة هيكلة منظمة التحرير بعد دخول كل الفصائل الفلسطينية فيها، وهو ما لم ينفذ في الواقع.
وفي يناير 2006 حصلت حماس على الأغلبية في مقاعد المجلس التشريعي في الانتخابات التشريعية الثانية، مما عكس مدى تطلع الفلسطينيين إلى حماس لنصرة القضية الفلسطينية التي تجاوزت اتفاق أوسلو الذي لم يقدم للفلسطينيين شيئًا، والذي عارضته وتعارضه حماس وفصائل أخرى لكونه لم يحقق ولن يحقق الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، بل واصلت بعده الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة رفضها لإقامة الدولة الفلسطينية، ورفضها عودة اللاجئين الفلسطينيين لبلادهم، وتبنت سياسة فرض الأمر الواقع من خلال تهويد القدس ومواصلة بناء العشرات من المستوطنات في القدس والضفة الغربية، وتمادت في اضطهاد الفلسطينيين والتضييق عليهم وقامت باغتيالات قيادات الفصائل الفلسطينية عامة وحماس خاصة، ومارست علنا الاعتداءات المتكررة يوميًّا على المسجد الأقصى مع تصاعد التصريحات والتهديدات يومًا بعد يوم من المتطرفين فيها بقرب هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، وهي كلها أمور تشير بقوة إلى أهمية مواصلة الكفاح والنضال المسلح من أجل تحرير الأرض والدفاع عن المقدسات، أمام عدو لا يعرف ولا يعترف إلا بلغة القوة.
وهذا الكفاح المسلح هو ما قامت به شعوب كثيرة من قبل في مواجهة محتليها رغم قوتهم، وصبرت عليه حتى نالت مرادها في نهاية الأمر. والأمثلة التاريخية على ذلك كثيرة منها ما قام به شعب الجزائر من قبل في مواجهة الاحتلال الفرنسي، وما قام به شعب فيتنام في مواجهة الاحتلال الأمريكي، وما قام به الأفغان في مواجهة الاحتلال السوفيتي ثم من بعده الاحتلال الأمريكي، وغير ذلك.
وهذا القتال والنضال المسلح لاستعادة الأرض المسلوبة والدفاع عن المقدسات أذن الله -تعالى- فيه للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله تعالى عنهم- لما أخرجوا من مكة والبيت الحرام؛ فأدوه رغم التضحيات حتى نصرهم الله -تعالى-؛ قال -تعالى- في حق أولئك الذين أجبروا على ترك أرضهم وديارهم وأموالهم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا) (الحج: 38-40)، وقال -تعالى-: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران: 195)، وقال -تعالى-: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 191)، وقال -تعالى-: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ . وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: 39)، وقال -تعالى-: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى: 41-42)، وقال -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (الحج: 60)، وقال -تعالى- في حق كفار مكة لما أخرجوا المسلمين من مكة وأخضعوا البيت الحرام لما هم عليه من الكفر: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) (البقرة: 217)، وكذلك هو إخراج اليهود الكفار للمسلمين الفلسطينيين من القدس وانتهاكهم لحرمات المسجد الأقصى وحرمان أهله الأحق به منهم يدخل في عموم قوله -تعالى-: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: 110)، وفي هذا المعنى قوله -تعالى-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
ولقد قاتل أهل الإيمان من بني إسرائيل بقيادة ملكهم طالوت من أخرجوهم من أرضهم وديارهم فنصرهم الله -تعالى- على عدوهم مع قلة عددهم، فكيف يكون الأمر وحالنا كحالهم لكننا الأكثر عددًا؛ قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا...) الآيات. (البقرة: 246 وما بعدها).
قال الكاتب الفلسطيني (فيصل أبو خضرا) في كتابه: (المسألة الفلسطينية: الأزمة والحل) تعقيبًا على ما آلت إليه منظمة التحرير من التصالح مع إسرائيل، ما مفاده: (يجب أن نعترف أن الشعب الفلسطيني قام قبل هزيمة 1967 بما كان ينتظر منه، وهو اللجوء إلى الثورة الشعبية المسلحة)، (ولكنَّ أمورًا وقعت هنا وهناك أفقدت الثورة توازنها، فكانت -ولا زالت- عاجزة عن الإمساك بمقود السفينة كما ينبغي؛ ذلك أن القائد الملهم لم يأتِ إلى الساحة بعد)، (لقد كانت الثورة الفلسطينية تضج بالحياة والثورية في بدايتها، وكانت تحترم مشاعر الشعوب العربية الشقيقة واختياراتها، وكان محرمًا على الفدائي الذي يعبر جنوب لبنان أو الأراضي الأردنية أو السورية أن يؤذي نملة في أي منزل أو قرية يمر بها في طريقه إلى مهمته القتالية)، (وكانت الثورة مجهولة تعيش تحت الأرض مثلها مثل كل الثورات، ولكن سرعان ما لعبت الأحلام في رؤوس البعض، فحسبوا أن المجد لا يعطى من فوهة البندقية، بل بواسطة الكراسي)، (فسقطوا في المحظور، ودخلوا دهاليز السياسة، وأصبحوا ثورة عمومية، أي: ثورة فوق الأرض)، (ووقع الكل في خطأ الجزء فتذابحنا مع اللبنانيين سنة 1969م، ثم مع الأردنيين سنة 1970م، ثم مرة أخرى مع اللبنانيين سنة 1973، ثم مرة ثالثة مع اللبنانيين سنة 1975م)، (ثم مع بعضنا البعض، ولم نقاتل العدو كما كان يجب، وانقلبنا من ثورة يحترمها العالم كله إلى ثورة لم تعد تخيف أحدًا، بل إن دولًا عديدة في العالم منحتنا ولاءها ثم سحبته بسبب أخطائنا الإستراتيجية).
(لقد كان مذهلًا أننا كنا نطلب الشيء ونقيضه في آن واحد، كنا نعلن أننا نقاتل من أجل تحرير كامل التراب الفلسطيني من العدو المحتل، ثم نتوجه بنداء إلى العالم نوافق فيه على إعطائنا أي مكان في فلسطين نقيم عليه دولتنا)، (ولقد كان مذهلًا حقًّا أننا كنا نقف مع سوريا مرة وضدها مرة ومع مصر مرة وضدها مرة، ثم مع تونس وطرابلس وبغداد وضدها مرة... إلى آخره. إن تكرار خطيئة عمان في بيروت، ثم تكرار خطيئة بيروت في تونس، وتكرار خطيئتي بيروت وتونس في عمان مرة ثانية، ثم تكرار كل هذه الخطايا في دمشق وعمان والجزائر... هي سياسة لا يمكن أن يكون دافعها الوعي الثوري أو الحدس الثوري، بل الارتباك، ولقد كان هذا الارتباك بمثابة الحد الأقصى من التخبط)، (ليس مذهلًا أننا انتقلنا في عشر سنوات فقط من ثورة تريد فلسطين كلها إلى ثورة تعترف بالقرار 242 الذي ينص صراحة على حق إسرائيل في فلسطين بدون مواربة أو غموض. إن هذا التخبط جعل العالم يشيح بوجهه عنا، وأبعدنا عن الهدف الحقيقي الذي هو فلسطين ولا شيء سواها)، (فالعار ليس في أن يحتل العدو الأرض، بل أن يعترف صاحب الأرض للعدو بهذا الاحتلال، والتاريخ مليء بالشواهد المشابهة التي احتل فيها العدو الأرض، ثم خرج منها بالقوة أو بالوسائل الأخرى)، (ولأن الوقت الآن لم يعد في صالحنا؛ ولأن ما فقدناه يفوق الوصف والتصور، فقد آن لنا أن نقف وقفة مسئولة ونحاسب أنفسنا، ونجدد انطلاقتنا لكي لا يطمسنا التاريخ) (انظر: المسألة الفلسطينية: الأزمة والحل، للكاتب الفلسطيني فيصل أبو خضرا، ص 12- 14 بتصرفٍ).
ويزيد الكاتب الأمر إيضاحًا فيقول ما مختصره: (إننا مسئولون عن ضياع فلسطين مثلما كان السلاح اليهودي مسئولًا عن ضياع فلسطين، ومثلما كان الغطاء الدولي لمصلحة إسرائيل مسئولًا عن ضياع فلسطين، فنحن لم نكن ندرك أن ما كان يجري حولنا منذ مطلع القرن العشرين الميلادي هو مؤامرة صهيونية لاغتصاب أرض فلسطين)، وحين بدأ الفلسطينيون يدركون هذه الحقيقة خاضوا معاركهم ضد اليهود (بالعاطفة وحب فلسطين دون قيادة سياسية واعية، أو قيادة عسكرية محترفة، فاستطاع العدو أن يسجل هدفه الأول: وهو إلغاء فلسطين من الخارطة ووضع إسرائيل بدلًا منها، ولكي يمرر عدونا ذو التجربة والمال هذا الهدف اختلق مسألة تقسيم فلسطين، ووافقت الدول الكبرى عليه... وسرعان ما رفضنا، ثم رضينا بهذا الأمر).
(والهدف الثاني الصهيوني: كان طردنا من فلسطين؛ ذلك أن الفلسطينيين كانوا حتى ما بعد التقسيم عام 1947م أكثر عددًا من اليهود بمعدل خمسة إلى واحد، وبسبب حسن تدربهم وقدرات قادتهم السياسية والمالية خاضوا ضدنا حربًا غير متكافئة فانهزمنا)، (الهدف الثالث كان طرد بقية الفلسطينيين والاستيلاء على كل فلسطين. وفي هذه الفترة كانت الدول العربية خارجة للتو من حكم الاستعمار لتدخل عالم الاستقلال الذي لم تتقن سياسته، ولم يكن عندنا زعامات فذة قادرة على شحن أبناء الأمة بالوطنية الصادقة، بل كن لدينا زعامات فارغة أو هوجاء وطنيا أو محبة للسلطة والمال. وبسبب تخبط الشعوب العربية في الجهل والفقر وعذاب الحكام تمكنت إسرائيل من حشد أبنائها وتحصين الأراضي التي سيطرت عليها وأنشأت فوقها دولة، وبينما كانت العرب يتصايحون ويتقاتلون اندلعت حرب 1967م في غفلة عربية، وضربت إسرائيل ضربتها وأذهلت العرب والعالم معا، لا بقوتها المفاجئة المنظمة فحسب، بل بكشف هشاشة القوة العربية العسكرية والتنظيمية، وبهذه الحرب حققت إسرائيل هدفها الثالث وهو الاستيلاء على كل فلسطين، وأجزاء أخرى من مصر وسوريا، لكي تتفاوض بها في المستقبل مقابل الاكتفاء بفلسطين فارغة من الفلسطينيين، أو مقابل إبرام معاهدة صلح مع العرب ينهون بها حالة العداء مع إسرائيل إلى الأبد، فتصبح إسرائيل الدولة الأقوى، والجارة المهيمنة في الشرق الأوسط كله، وتحقق بذلك هدفها الرابع) (المصدر السابق).