كتبه/ أحمد شهاب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه الأشلاء المترامية، وتلك الصرخات الأليمة، والدموع الغزيرة تؤثر في نفس كل مسلم، بل كل إنسان حي أيما تأثير!
خاصة مع الشعور بالقهر الناشئ عن الإحساس بالعجز عن منع ذلك الظلم، أو مجازاته بما يجب في مثل تلك الأحوال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يتألم الإنسان لألم إخوانه وأخواته، وأطفاله وآبائه وأمهاته القابعين تحت تلك النار المحرقة؛ إلا أن الرؤية تتغير تمامًا إذا نظرنا إلى الأمور من زاوية أخرى!
فبمجرد الانتقال إلى خارج ذلك العالم الدنيوي البائس، ومع النظر باليقين في الغيب ترى ما رواه لنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- عما حدث في سرية مؤتة، قال: خَطَبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، وَقَالَ: مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا)، قَالَ أَيُّوبُ: أَوْ قَالَ: (مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. (رواه البخاري).
فمع ذلك المصاب الجلل يبشرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الشهداء منهم لا يسرهم أنهم عندنا، بل هم في غبطة ونعمة وكرامة عظيمة، أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله.
أنت حزين عليهم هنا وهم هناك فرحون مستبشرون، لا يسرهم أن يعودوا إلينا؛ فلنحزن على أنفسنا نحن مخافة أن تفوتنا الشهادة في سبيل الله.
نحن قلقون على أولادهم، وقد تكفل بهم الحفيظ الشكور، الرؤوف الرزاق، ذو القوة المتين، وهو أرحم بهم مِن والديهم، والله لا يضيع أجر المحسنين، هو الخليفة في الأهل والمال والولد، وانظر قصة الخضر لترى كيف حفظ الله -تعالى- الكنز للأولاد الصغار لصلاح أحد آبائهم، وقد اشتهرت قصة أبناء عمر بن عبد العزيز، وكيف أغناهم الله مع أن أباهم مات وتركهم بلا شيء يذكر.
بل هم في الحقيقة المشفقون علينا نحن، فلسان حال الواحد منهم: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس: 26-27)، هم الحريصون على الاطمئنان علينا ويتمنون أن ننال ما نالوا (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 170-171).
وكيف لا وهم عند قتلهم بالقِتلة الشنيعة لم يجدوا لها ألمًا إلا كمس القرصة؟! وبعد الشهادة رأوا الكرامات العظيمة والفضائل والنعم الجليلة؛ فيا هنيئًا لهم.
ويا أَسَفَا علينا إن قصرنا تجاههم، وغالبنا مقصر إلا مَن رحم الله من أولئك المجتهدين في فعل كل ما يقدرون عليه بأنفسهم وأموالهم، وبغيرهم، وبأمرهم مَن لديهم نوع قدرة أكبر، ومع اجتهادهم وبذلهم وسعيهم ترى صدقهم في الحزن على ما لا يقدرون عليه: (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة: 92)، وهناك معذورون من المستضعفين: (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء: 98-99)، لكن العتب على مَن يقدر على شيء مِن العمل لدينه، والبذل والتضحية في سبيل الله، وهو مع ذلك مفرط فيه ومقصر، فاللهم ارحمنا واغفر لنا.
وكذلك بنفس تلك العين الإيمانية الموقنة بالغيب المستحضرة للآخرة ترى جزاء الظالمين ينتظرهم من عذاب عظيم أليم مهين، وهو واقع بهم مهما طالت أيامهم، فمثواهم النار وبئس مثوى الظالمين.
ترى هؤلاء المتكبرين المتغطرسين محشورين كالنمل الصغير يدوسهم الناس بأقدامهم يغشاهم الذل محشورين إلى سجن بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال، جزاء وفاقا.
تنتظرهم نار جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية، يخطب فيهم شيطانهم: (فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النساء:98)، وهذا الأمر في غاية الأهمية، فالارتباط بالله واليوم الآخر بيقين وحضور وشهود، ومصاحبة الوحيين -القرآن والسنة- هذا هو زاد المؤمن في تلك الظروف القاسية.
وليس الغرض في هذه الكلمات إطفاء جذوة التآخي والتعاطف على ما يحدث لأهلنا، بل نحن جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وإنما الغرض تكميل الصورة بنظرة للغيب واستحضار لموازين الآخرة حتى تتزن الأمور، فثم شعرة بين العاطفة الدافعة للعمل مع اليقين في الوعد والأمل، وبين الأسى المثبط والمحبط والمقعد عن السير والبذل والعمل.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين وأفرغ عليهم صبرًا، وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين.
اللهم مُنزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، وهازمَ الأحزاب، اهزِمهم وانصُرنا عليهم.