الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 12 أبريل 2023 - 21 رمضان 1444هـ

(فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) (3)

كتبه/ أشرف الشريف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فما زلنا مع قوله -تعالى-: (‌وَمَنْ ‌يُشْرِكْ ‌بِاللَّهِ ‌فَكَأَنَّمَا ‌خَرَّ ‌مِنَ ‌السَّمَاءِ ‌فَتَخْطَفُهُ ‌الطَّيْرُ ‌أَوْ ‌تَهْوِي ‌بِهِ ‌الرِّيحُ ‌فِي ‌مَكَانٍ ‌سَحِيقٍ) (الحج: 31)، والذي يبدو أن الآية بيَّنت حال كلِّ مشرك كلٌ على حسب جرمه؛ ليكون الجزاء من جنس العمل. 

قال الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في تفسيره: "يَعْنِي أَنَّ الْمُشْرِكَ لَمَّا عَدَلَ عَنِ الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ وَكَانَ فِي مِكْنَتِهِ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ فَسَقَطَ مِنْهَا، فَتَوَزَّعَتْهُ أَنْوَاعُ الْمَهَالِكِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ فِي مَطَاوِي هَذَا التَّمْثِيلِ تَشْبِيهَاتٍ كَثِيرَةً لَا يَعُوزُكَ اسْتِخْرَاجُهَا، وَالسَّحِيقُ: الْبَعِيدُ فَلَا نَجَاةَ لِمَنْ حَلَّ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) تَخْيِيرٌ فِي نَتِيجَةِ التَّشْبِيهِ... أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شِرْكُهُ ذَبْذَبَةٌ وَشَكٌّ، فَهَذَا مُشَبَّهٌ بِمَنِ اخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فَلَا يَسْتَوْلِي طَائِرٌ عَلَى مِزْعَةٍ مِنْهُ إِلَّا انْتَهَبَهَا مِنْهُ آخَرُ، فَكَذَلِكَ الْمُذَبْذَبُ مَتَى لَاحَ لَهُ خَيَالٌ اتَّبَعَهُ وَتَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقِسْمٌ مُصَمِّمٌ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَقِرٌّ فِيهِ، فَهُوَ مُشَبَّهٌ بِمَنْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي وَادٍ سَحِيقٍ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ شِرْكُهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ خَلَاصٌ كَالَّذِي تَخَطَّفَتْهُ الطَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شِرْكُهُ قَدْ يَخْلُصُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إِلَّا أَنَّ تَوْبَتَهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ عَسِيرُ الْحُصُولِ... و(فَتَخْطَفُهُ): مُضَاعَفُ خَطِفَ لِلْمُبَالِغَةِ، الْخَطْفُ وَالْخَطَفُ: أَخْذُ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ".

لقد صفَّق شيوخ البلاغة -وحقَّ لهم- للوأواء الدمشقي حينما قال في مقام الغزل:

فأَمْطَرَتْ لُؤْلُؤًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ      وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ

وهذا بيت فيه من الحسن والرونق والخيال التصويري، والاستعارات البديعة، ما لا خفاء به، ففي هذه الكلمات العشر التي تكوَّن منها البيت الشعري خمسُ صور شعرية في غاية الروعة والجمال؛ فقد صوَّر الدمع باللؤلؤ، والعيون بالنرجس، والخدود بالورد، والشفاه بالعناب، والأسنان بالبرد، من خلال الاستعارة التصريحية، وتلك الصورة بهذه الروعة تفتقِر إلى مقام الغزل أو الوصف، ولعل هذا ما أضفى عليها هذا الجمال في هذا البيت الشعري. 

ومع ذا فعند تدبرنا للصورة البلاغية في خطاب العقيدة في القرآن الكريم؛ ندرك عِظَم الفارق وبديع الفائق، لنخرَّ ساجدين من بلاغة القرآن الكريم، مقرين بأن الصورة القرآنية صورة عبقرية معجزة، متفردة ملهمة ذات مقاصد ومدلولات متنوعة، كما في قوله -تعالى-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) بضع عشرة كلمة ليست في مقام الوصف أو الغزل الذي تكثر فيه الصور الماتعة وتحلو، إنما جاءت في مجال العقيدة والتوحيد الذي يكثر فيها الجدل العقلي والجدية، والتشنج، والأدلة، والعصف المنطقي. 

لقد رَسَمَتْ لنا هذه الكلمات القليلة صورة ظاهرة هي في غاية الروعة والجمال من حيث تأديتها للمراد منها، وهي الترهيب من الشرك بالله -عز وجل-؛ فلو أن نائمًا رأى في منامه أنه خَرَّ من السماء وتريد الطير أن تتخطفه أو تهوي به الريح في قاع سحيق؛ لهبَّ مذعورًا من كابوسه قبل أن يلقى مصيره الشنيع.

وهذه الصورة الظاهرة العاصفة تتماوج داخلها عشرات الصور البديعة ذات الدلالات العميقة التي تحتاج عصفًا ذهنيًّا خارقًا، وحالة طوارئ ذهنية لكي يستطيع المرء الإحاطة بها، وحسبي أني حاولتُ قَدْر الجهد. 

انظر وتأمل في دِقَّة اختيار لفظ: (خَرَّ)؛ للتعبير عن السقوط!