الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 16 فبراير 2023 - 25 رجب 1444هـ

هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض (2)

كتبه/ كريم صديق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد كان التصريح بالشيء أو إخفاؤه أمرًا قصده النبي -صلوات الله عليه- ووعاه، وقصد الموقف الذي يصرح فيه، والموقف الذي يعرِّض فيه، أو يخفي الكلام أو جزءًا منه، حتى رصد القرآن هذه الظاهرة رصدًا دقيقًا حيث قال -تعالى-: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) (التحريم: 3).

قال القرطبي رحمه الله: "(عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ): عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْضَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا نَهَاهَا عَنْ أَنْ تُخْبِرَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ تَكَرُّمًا. قَالَ السّدي: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ".

فالكريم من شيمته أن ينتقي كلامه؛ فلا يظهر ما يحدث حرجًا في نفوس مَن يكلمهم، وتلك قضية عظمى يختلط فيها الأدب بالبلاغة ويتمازجان، فلا يبدع فيها إلا مَن اجتمعت له أصول البلاغة وقواعد الأدب.

فذكر لحفصة -رضوان الله عليها- طرفًا مما ذكرته لعائشة، وغض الطرف عن جزء من الكلام؛ حتى لا يجرح شعورها حين يعيد على سمعها ما ذكرته، وهو -صلوات الله عليه- يعي برهافة حسه ما يمكن أن يقال، وما يجمل تركه من كلام آخر؛ إلا أن هذا التعريض يقابله صورًا أخرى من التصريح، لا يمكن فيها التعريض، بل لا بد فيها من الإبانة؛ لأن المقام يستدعيها.

ومن ذلك: التصريح بلفظ النكاح عند استبيان الأمر في شأن رجل أقر بفعل الزنا، فلا يمكن العدول إلى التعريض في أمر لا يتضح إلا بالتصريح، وبذلك تُحدِّثنا المرويات في قصة ماعز الأسلمي: وَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ -صلوات الله عليه- وَقَالَ: (أَبِكَ جُنُونٌ) قَالَ: لَا، قَالَ: (أُحْصِنْتَ؟) قَالَ: نَعَمْ. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: (لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ)، وَفِي النَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ: حَتَّى قَالَ لَهُ فِي الْخَامِسَةِ (أَجَامَعْتَهَا) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ)، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قال: (هَلْ تَدْرِي: مَا الزِّنَا؟) قَالَ: "نَعَمْ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا".

فالمقام هنا لا يحتمل التعريض، بل لا مناص عن التصريح، ونرى هنا حرصه -صلوات الله عليه- على تكرار السؤال بصورٍ شَتَّى ينتفي بها الإبهام والغموض، وذلك لما يترتَّب على هذا الإقرار من إقامة الحد، فالتصريح هو سيد الموقف الذي لا يمكن النزوع عنه إلى أي تلميح أو تعريض، حتى وإن كانت العبارات تتناول ما يستحيي الناس -عادة- من ذكره، فتبعة الموقف ليست بالشيء الهيِّن.

ويصرِّح أيضًا باسم البعض لِمَا بينه وبينهم من القرابة؛ لئلا يظن أحدٌ أنه يتستر عليهم؛ لما لهم عنده من مكانة، فالجميع عنده سواء أمام أحكام الله، فنراه يقول: (وَرِبَا ‌الْجَاهِلِيَّةِ ‌مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ ‌رِبًا أَضَعُ رِبَانَا ‌رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ ‌مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) (رواه مسلم).

فلم يصرح باسم أناس؛ لمصلحة راجحة، وصرح باسم آخرين؛ دفعًا للتوهم وسدًّا للذريعة، وهكذا نراه -صلوات الله عليه- يصرح قصدًا ويخفي قصدًا، ويعرِّض قصدًا، وكل ذلك يأتي ملائمًا للموقف دون أدنى تكلف، وإنما ينساب على عقولنا انسيابًا رقيقًا.

وهذه الآلية المختصة بالتصريح تارة، وبالتعريض تارة أخرى كانت البلاغة هي ميدانها الواسع؛ حيث اعتنى بها الدرس البلاغي في مباحث كثيرة، مثل: الحديث عن المجاز اللغوي، والمجاز العقلي، والكناية، والاستعارة، ومخالفة الأصل في التراكيب بالتقديم والتأخير.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.