الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 27 أكتوبر 2022 - 2 ربيع الثاني 1444هـ

لا تبرحوا أماكنكم!

كتبه/ غانم فرج بو حزين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كانت مكة تحترق غيظًا على المسلمين؛ مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة، وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام، وأخذ الثأر؛ حتى إن قريشًا كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون إلى مدى مأساتهم وحزنهم.

أما المسلمون فكانوا على موعد (في غزوة أحد) مع واحدٍ مِن أبلغ الدروس التربوية في تاريخ الإسلام؛ فقد لاحظ النبي صلى الله عليه وسلم أن على ميمنة جيش المشركين خالد بن الوليد فخشى أن يلتف بفرسانه من وراء الجبل ويباغت جيش المسلمين من الخلف، فعيَّن خمسين من الرماة المهرة على الجبل الذي سُمِّي فيما بعد باسمهم: (جبل الرماة) وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، وأصدر إليهم أوامره الصارمة الواضحة: "لا تبرحوا أماكنكم"، وقال لقائدهم: "انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتوننا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك".

وقال للرماة: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا"، وفي رواية البخاري أنه قال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ‌ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم".

وبدأت المعركة وأبلى المسلمون بلاءً حسنًا، وذاقت قريش بعض الذي ذاقته في بدر، فقد فرَّت جنودها وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح ويجمعون الغنائم.

وعند ذلك ظن الرماة على الجبل أن الأمر قد انتهي فنزلوا يريدون الحظ من النصر والغنائم؛ عندها حدث ما كان يخشاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهز خالد بن الوليد الفرصة والتف بفرسانه حول الجبل وباغتهم من الخلف، وتحول النصر بعدها إلى هزيمة، وتعلموا الدرس البليغ أن هذه الأمة لن تحقق النصر ما لم تلتزم بأوامر نبيها وقائدها.

فإن كانت غزوة أحد قد انتهت، فإن مهمة الرماة الذين يحفظون ظهور المسلمين لم تنتهِ بعد، فطوبى للمدافعين عن هذا الدِّين العظيم؛ كل في مجاله.

طوبى للقابضين على الجمر رغم فتن الشهوات والشبهات، كلما وهنوا قليلًا تعزوا بصوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي فيهم: "لا تبرحوا أماكنكم".

فلا تبرحوا أماكنكم... 

- أيها الدعاة إلى الله... أنتم على ثغر عظيم؛ فلا تبرحوا أماكنكم.

- أيها الآباء والمربون والمعلمون... أنتم تحمون ظهورنا فلا تبرحوا أماكنكم.

- أيتها الأمهات الفاضلات اللواتي يربين أولادهن على الصلاة والصيام، وحفظ القرآن والأخلاق الفاضلة، أنتن على ثغر، تحمين ظهورنا فلا تبرحن أماكنكن.

- أيها المدرسون... يا مَن تدركون خطورة المرحلة وأهمية تربية الأجيال تربية إيمانية، لا تبرحوا أماكنكم.

- أيها الموظفون الأمناء الذين يؤدون أعمالهم بمهنية وضمير، ويراقبون الله في عملهم... أنتم تحمون ظهورنا؛ فلا تبرحوا أماكنكم.

- أيتها الأخوات العفيفات الطاهرات المحجبات... أنتن دعوة صامتة للمجتمع، وحائط صد عظيم ضد دعوات التفسخ والسفور والانحلال؛ فلا تبرحن أماكنكن.

- يا شباب يا أصحاب صلاة الفجر ومجالس الحديث ودور القرآن... أنتم ترسانة الإسلام الأفتك والأقوى؛ فلا تبرحوا أماكنكم.

قيل لسالم مولى أبي حذيفة -وهو مِن حملة القرآن العظام في معركة اليمامة-: نخشى أن نؤتى مِن قِبَلك؟! فقال: "بئس حامل القرآن أنا إن أوتيتم من قِبَلي".

لو تأمل كلُّ واحد منا موضع قدميه؛ لاكتشف أنه على ثغر عظيم، وأنه لو وقف مكانه؛ فإنه سيسد هذا الثغر، ويدفع الخطر عن الأمة؛ كل واحد منا في مكان وضعه الله فيه وألقى علي كتفه مسئولية وأمانة؛ "فلا تبرحوا أماكنكم".

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.