الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 12 أكتوبر 2022 - 16 ربيع الأول 1444هـ

فمَن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال الله سبحانه وبحمده: "والوزن يومئذٍ الحق فمَن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومَن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون".

قال ابن عباس: "توزن الحسنات والسيئات في ميزان، له لسان وكفتان، فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته؛ فذلك قوله: فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كفة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار" (تفسير القرطبي رحمه الله).

قال ابن كثير رحمه الله: "والذي يوضع في الميزان يوم القيامة، قيل: الأعمال وإن كانت أعراضًا؛ إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجسامًا".

قال ابن كثير رحمه الله: "يروى هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح من أن "البقرة"، و"آل عمران" يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -أو: غيايتان- أو فرقان من طير صواف. وقيل: يوزن كتاب الأعمال، كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به، ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلًا كل سجل مد البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها: "لا إله إلا الله" فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة. وقيل: يوزن صاحب العمل كما في الحديث: يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا). وفي مناقب عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتعجبون من دقة ساقيه، فوالذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد"، ثم رجَّح رحمه الله الجمع بينهم جميعًا فقال: وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحًا، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم" (مختصر تفسير ابن كثير).

فإن كان الأمر كذلك فيجب علينا جميعًا أن نسعى جاهدين في تثقيل موازيننا بالإكثار من عمل الصالحات وذكر الله تعالى، ومنها كما روى البخاري في صحيحه عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ".

والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: "ثقيلتان في الميزان"، وكذا في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ، أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ".

قال النووي رحمه الله: "والحمد لله تملأ الميزان" فمعناه: عظم أجرها، وأنه يملأ الميزان، وقد تظاهرت نصوص القرآن والسنة على وزن الأعمال وثقل الموازين وخفتها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض"، فيحتمل أن يقال: لو قدر ثوابهما جسمًا لملأ ما بين السماوات والأرض، وسبب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله: "سبحان الله"، والتفويض والافتقار إلى الله تعالى بقوله: "الحمد لله". والله أعلم" (انتهى بتصرف من شرح النووي على صحيح مسلم).

وكذا ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: "مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟"، قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ".

وكذا حُسن الخلق من أعظم ما تثقل به الموازين كما في الحديث عن أَبِي الدَّرْدَاءِ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ"، وكذا اتباع الجنائز وخاصة الانتظار حتى الانتهاء من دفنها كما في الحديث عن أُبَيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِهِ مِنْ أُحُدٍ".

وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.