الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 30 سبتمبر 2020 - 13 صفر 1442هـ

رسالة إلى مَن يريد الإصلاح

كتبه/ شحاتة صقر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد كانت دعواتُ الرُّسُلِ جميعِهم دعوةً للإصلاح كما قال نَبيُّ الله شعيبٌ -عليه السلام- عندما دعا قوْمَه إلى توحيدِ الله وعبادتِه والالتزامِ بما شرَعَه لهم مِن الأحكامِ: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود:88)، فالإصلاحُ هو منهجُ الرُّسل وأتباعِ الرُّسل، بعكس الإفساد الذي هو منهجُ المنافقين ومعارضي رُسُلِ اللهِ رغم تَبَجُّحِهِم بزَعْم الإصلاح، قال -تعالى- عن المنافقين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:11-12).

لكن ضَعْ أيُّها المصلحُ، نُصْبَ عينَيْك أنَّ طريقَ الإصلاحِ شاقٌّ وطويلٌ، وأنك قد لا تَرى ثمرةَ دعوتِك للإصلاح، بل قد لا يكونُ هناك ثمرةٌ أصلًا؛ فالمصلحون مُطالَبون بالعملِ لا بالنتائِجِ، فابذرْ دعوتَك في قلوبِ الخلقِ، واسقها بماء الوحي، وارْعَها وتابِعْها، أما بلوغ البذرة موسم الحصاد فليس إليك، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (العنكبوت:14)، تسعمائة وخمسون عامًا من الدعوة إلى التوحيد، يدْعُوهم ليلًا ونهارًا سرًّا وجِهارًا، (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا . وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا . ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا . ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) (نوح:5-9)، ثم ماذا كانت الثمرة؟ لم يهتدوا، بل استمروا على كُفْرهم وطغيانهم. كم كان عددُ المهتدين؟ قال -تعالى-: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (هود:40).

وتأمل قول النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ) (رواه البخاري)، ورواه مسلم بلفظ: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ).

وَالرُّهَيْطُ: تصغيرُ الرَّهْط، والرَّهْطُ: كَلِمةٌ تُطلَق على العدد القليل، قيل: مِن الثلاثة إلى العشرة، وقيل: مِن السبعة إلى العشرة، وقيل: ما دون العشرة عمومًا هم الرهط.

فتصَوَّرْ نبيَّ الله نوحٍ وأولئك الأنبياءَ الموصوفينَ في هذا الحديث عليهم السلامُ: لا ينقُصُهم إخلاصٌ، ولا علمٌ، ولا تأييدٌ مِن الله -تعالى-، ولا تنقصهم معرفةٌ بوسائلِ الدعوةِ، وطُرق التأثير في النّاس، فالأنبياءُ -عليهم السلام-، هم أكملُ النّاس في هذه الأمور، وأكثرُ النّاس اجتهادًا في العمل لدِين الله -تعالى-، ومع ذلك ما الثمرةُ؟ الرَّهْطُ، الرُّهَيْطُ، الرَّجُلَانِ، الرَّجُلُ، لَا أَحَدَ، فالهداية بيَدِ الله، والقلوبُ بيدِه -سبحانَه-، قال -تعالى- لنبِيِّه -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56)، فالنبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- وغيرُه من باب أوْلَى لا يقدر على هداية أحد، ولو كان مِن أحَبِّ الناس إليه، وإنما ذلك بيد الله -سبحانه تعالى-، يهدي مَن يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيُبْقيه على ضلاله.

وقال -تعالى- لنبِيِّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة:272)، فالرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم-، ليس مسئولًا عن توفيق الكافرين للهداية، ولكن الله يشرح صدور مَن يشاء لدينه، ويوفقه له.

وأمَّا إثباتُ الهداية للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله -تعالى-: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52)، فتلك هدايةُ البيانِ والإرشادِ، فالرسولُ يبيِّنُ الصراطَ المستقيمَ، ويُرغِّبُ فيه، ويبذُل جهْدَه في سلوك الخلْق له، وأما كوْنُه يخلُق في قلوبهم الإيمانَ، ويوفِّقُهم بالفعل، فحاشا وكلّا (انظر: تفسير السعدي، ص 116، 620).

ومع ذلك، أيُّها المصلحُ، كُن حريصًا على هدايةِ الخلْقِ، ولك في ذلك أسوةٌ حسنةٌ في حبيبِك -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فقد كان حريصًا على هدايةِ الخلْق، ساعيًا في ذلك أعظمَ السَّعْي، فكانَ يفرح بهداية المُهتدين، ويحزَنُ ويأسفُ على المُكذِّبين الضّالّين، شَفقةً منه عليهم، ورحمةً بهم، وقد كان مِن شدّة حرْصِه على هُداهُم يحصل له ألمٌ عظيمٌ إذا لم يهتدوا حتى يُسلِّيه ربُّه ويعَزّيه كقوله -تعالى-: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:3)، وقال -تعالى-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف:6)، وقال -تعالى-: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (النحل:37)، وقال -تعالى-: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (الأنعام:35) (انظر: درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، 5/ 371).

فالمُصلح يبذُل ما عليه مخلصًا لله -تعالى- مُصلحًا لنفسه وغيره، ويقدِّم للناس ما استطاع، مُستخدمًا الوسائلَ الدعويةَ المتاحَة، ومقَدِّمًا القدوةَ الصالحةَ في علْمِه وأقوالِه وأفعالِه، ولا يكَلّ ولا يَمَلّ، ولا يصاب بالإحباط بما يراه مِن عدم استجابةِ الناس لدعوتِه، أو تأثُّرهم بها، فالمُصلح أجرُه على الله -تعالى-، استجابَ الناسُ أم لم يستجيبوا، فيكْفيه أنَّ الله يرى عمله وإخلاصَه، قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) (البقرة:220)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف:170).

قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "وإنما العقلاءُ حقيقةً مَن وَصَفَهم الله بقولِه: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ) أي: يتمسَّكون به عِلمًا وعَمَلًا فيعْلَمُون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي عِلمُها أشرفُ العلوم، ويعْمَلون بما فيها من الأوامر التي هي قُرَّةُ العيونِ وسرورُ القلوبِ، وأفراحُ الأرواحِ، وصلاحُ الدنْيا والآخرةِ.

ومِن أعظمِ ما يجب التمسُّكُ به من المأمورات: إقامةُ الصلاةِ ظاهرًا وباطنًا؛ ولهذا خَصَّها الله بالذكْر لفضْلِها، وشرَفِها، وكوْنِها ميزانَ الإيمانِ، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات.

ولمَّا كان عملُهم كلُّه إصلاحًا، قال -تعالى-: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مُصْلِحينَ لِأنفُسهِم ولغيْرِهم.

وهذه الآيةُ وما أشبهها دلت على أن الله بعث رسله -عليهم الصلاة والسلام- بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضارّ، وأنهم بُعِثوا بصلاح الدارَيْن، فكُلُّ مَن كانَ أصْلَح، كانَ أقربَ إلى اتِّباعهم) (تفسير السعدي، ص: 307).

ولْتحرِصْ أيُّها المصلح كلَّ الحرصِ: على إصلاحِ نفسِك، وإيَّاكَ أنْ تكون ممنْ يدْعون الناسَ إلى الجنَّةِ بأقوالِهم، وفي نفس الوقتِ يدْعُونهم إلى النار بأفعالِهم.

وتَذَكَّرْ دائمًا: أنَّ صلاحَ النفوسِ مِن أسبابِ النّصرِ والتمكين لدينِ الله في الأرضِ، وأنَّ الأمَّة قد تنتصر بمن لا يَحْمِل سلاحًا، بل بمن يَحْمِلُ أعمالًا صالحة، وقلبًا تقيًّا نقيًّا مخلصًا؛ قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).