الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 01 فبراير 2020 - 7 جمادى الثانية 1441هـ

مظاهر القسوة في المجتمع أسباب وعلاج (15) العنف ضد المرأة

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فتمثِّل قضية العنف ضد المرأة عند الغربيين عقدة نقص؛ لكثرة العنف عندهم، وضمن برنامج العولمة في نشر ثقافتهم الخبيثة، وفرضها على العالم يكثرون هم والتغريبيون أتباعهم -أبناء أعدائنا منَّا- من تجريم العنف ضد المرأة؛ مع أنها لفظة مجملة، وهي عندهم تشمل الضرب غير المبرِّح الذي أذِن فيه شرع الله، وحاول بعض مَن يقلدونهم مِن تحريف كلام الله عن مواضعه؛ فزعموا أن الضرب معناه أن يعفو عنها ويعرض عن فعلها، واستدلوا بقوله -تعالى-: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِين) (الزخرف:5)، ولا يشك عالم بتفسير القرآن أن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس هذا عند أحدٍ مِن السلف؛ فضلًا عن أنه لا يُفهم من العربية، والضرب عن الذكر صفحًا مقترن بقيودٍ لا يصلح أن يُحمل معها على الضرب مطلقًا -بحالٍ من الأحوال- الذي هو ظاهر لفظ: (وَاضْرِبُوهُنَّ) (النساء:34)، وقد أجمع السلف على عدم تفسير الآية بخلاف ما هو ظاهرها مِن الضرب، وكذا أجمع شراح السنة على تفسير الحديث بالضرب غير المؤذي والمؤثِّر -كما سبق بيانه في المقال السابق-.

 وهذا الوصف للضرب يمنع أن يكون ضررًا حقيقيًّا بالمرأة، وإنما هو نوع عقوبة لبعض النساء تأديبًا إذا استمر إعراضهن ونشوزهن رغم كل وسائل الإصلاح، والطلاق يُلجأ إليه في الشرع كآخر العلاج وليس كأوله، فالضرب المشروع الذي له سبب من عصيان المرأة زوجها، وعدم استجابتها له في الفراش، وفيما يلزمها من خدمته وخدمة أولاده منها ليس إضرارًا بالمرأة، ولا عنفًا محرمًا ضدها؛ والصحيح أنه لا يصح أن نستعمل لفظ العنف ضد المرأة كمعنى محرَّم أو مُجرَّم؛ فإن التغليظ في القول عنف، والضرب المشروع عنف، ومعاشرة المرأة -وهي غير راغبة عند الغرب- اغتصاب، ولكن الذي يلزم استعماله للخروج من كل هذه الأقاويل الباطلة هو لفظ: "الإضرار" -ويحرم الإضرار بالمرأة-؛ فهذا هو اللفظ الشرعي القرآني، قال الله -تعالى-: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (الطلاق:6)، فما أذِن الله فيه ليس ضررًا؛ وإنما هو تأديب وتهذيب لا انتقام كما يفعله البعض.

 مع أن الضرب عمومًا ليس مِن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه لم يضرب شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله كما في الصحيح: (وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-) (رواه مسلم).

فالأفضل الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- في ترك الضرب مطلقًا؛ فإذا فاءت المرأة، وعادت إلى طاعة زوجها؛ فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها، قال ابن كثير -رحمه الله-: "(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء:34)، أي: إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها، مما أباحه الله له منها؛ فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها.

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا): تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب؛ فإن الله العلي الكبير وليُّهن، وهو منتقم ممَن ظلمهن وبغى عليهن. 

وقال ابن جرير -رحمه الله-: "يعني بذلك -جل ثناؤه-: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) -أيها الناس- نساؤكم التي تخافون نشوزهن عند وعظكم إياهن؛ فلا تهجروهن في المضاجع؛ فإن لم يطعنكم فاهجروهن في المضاجع واضربوهن؛ فإن راجعن طاعتكم عند ذلك وفِئْن إلى الواجب عليهن؛ فلا تطلبوا طريقًا إلى أذاهن ومكروههن، ولا تلتمسوا سبيلًا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك أن يقول أحدكم لإحداهن وهي له مطيعة: إنك لستِ تحبيني وأنت لي مبغضة؛ فيضربها على ذلك أو يؤذيها، فقال الله -تعالى- للرجال: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي: على بغضهن لكم؛ فلا تجنوا عليهن، ولا تكلفوهن محبتكم؛ فإن ذلك ليس بأيديهن فتضربوهن أو تؤذوهن عليه. ومعنى قوله: (فَلَا تَبْغُوا) أي: لا تلتمسوا ولا تطلبوا مِن قول القائل: بَغَيْتُ الضالة؛ إذا التمستها، ثم ذكر عن ابن عباس في قوله: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) قال: إذا أطاعتك فلا تتجنَّ عليها العلل. وقال: إذا أطاعته فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته. وقال الثوري في قوله: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) قال: إن أتت الفراش وهي تبغضه. وعن سفيان قال: إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه؛ لأن قلبها ليس في يديها. عن مجاهد قال: إن أطاعته فضاجعته؛ فإن الله يقول: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا). وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) يقول: إن الله ذو علو على كل شيء؛ فلا تبغوا -أيها الناس- على أزواجكم إذا أطعنكم فيما ألزمهن الله لكم من حق سبيلًا لعلو أيديكم على أيديهن؛ فإن الله أعلى منكم ومن كل شيء، وأعلى منكم عليهن، وأكبر منكم ومن كل شيء، وأنتم في يده وقبضته؛ فاتقوا الله أن تظلموهن وتبغوا عليهن سبيلًا وهن لكم مطيعات؛ فينتصر لهن منكم ربكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء، وأكبر منكم ومن كل شيء" (انتهى).

وما أعظم فقه السلف في نهي الزوج عن التعلل؛ أي: التماس أي علة في زوجته؛ ليضربها ويقسو عليها، أو ليأخذ مالها؛ فالسلف أعلم بالواقع مِن كثيرٍ مِن المتأخرين، حين وصفوا مما يحدث من كثيرٍ من الأزواج بالتعلل!

والعليم الخبير -سبحانه وتعالى- عليم بما يكنه خلقه؛ فهدد الرجال إذا ما علوا على النساء بغير الحق، وتكبروا بغير الحق؛ لأنه هو العلي الكبير فوقهم، وأكبر من كل ظالم، وهو -عز وجل- قاهر فوق كل جبار.

فقسوة الزوج على زوجته بغير حق -وهي ضعيفة أسيرة في يده- من أكبر أسباب قسوة الأبناء على آبائهم، ثم على مجتمعهم؛ وعلاج ذلك بمعرفة أسماء الله وصفاته، والتعبد له بها، فالعليم الخبير يعلم ما تكنه النفوس، وهو خبير بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم داخل بيوتهم وخارجها؛ فلا بد من مراقبة الله -سبحانه- والنظر فيما يقدمه العبد لنفسه؛ فإنه محاسب عليه غدًا بين يدي العليم الخبير، وهو -سبحانه- العلي الكبير فوق خلقه جميعًا، وهو أكبر من كل شيء، وهو المتكبر بحقٍ سبحانه؛ فلا بد من التواضع لعظمته، واستصغار النفس بين يديه، ومعاملة الخلق بالتواضع والرحمة واللين؛ لئلا يتعرض العبد لانتقام العلي الكبير؛ لأنه متكبر متعالٍ بالظلم والعدوان فيحرمه الله من الآخرة؛ لأن الله -عز وجل- جعل الآخرة لغير المتكبرين والمفسدين، فقال -تعالى-: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).